الأكاديميا ودورها في صناعة المعرفة وصياغة التنوير: من نعوم تشومسكي إلى الأخوين غصيب
د. عبدالله سرور الزعبي
تنبع تصرّفات الإنسان، حسب أفلاطون، من ثلاثة مصادر أساسية هي الرغبة والعاطفة والمعرفة. وإن كانت الرغبة والعاطفة تنبعان من غرائز البشر الوجدانية وضروراته الجسدية، فإن المعرفة قوة تمثل الوسيلة والسبيل معاً إلى ذروة الحياة؛ إذ تمنحها المعنى العميق، فبها تكمن أسباب الوجود ودونها تزول. وبديهي أن تكون رحلة الإنسان في الحياة محض سعي للوصول إلى ذاته وإزالة رواسب الجهل والعوائق التي تعترض الحقيقة عبر المعرفة بطرائقها وسبلها المتنوعة وأوجهها المتعددة. المعرفة بذلك حقيقة والحقيقة معرفة، والإنسان الذي يطمح إلى رؤية روح الحقيقة، لا يستطيع أن يعتزل الحياة، حسب غاندي في كتابه “رحلتي مع الحقيقة”، التي من أجلها تحمل كل معاناة، وانتصر أخيراً على الكذب.
لعب الأكاديميون وأساتذة الجامعات دوراً حاسماً في حمل عصر التنوير وإطلاقه عبر إنتاج المعرفة ونقلها ورعاية التفكير النقدي وتطوير البحوث وتعزيز تنوع الفكر والدعوة إلى المسؤولية الاجتماعية والإنسانية. تعتبر الأكاديميا لذلك منصة أساسية لصناعة المعرفة وتشكيل الفكر حيث تلعب دوراً حيوياً في تطوير المجتمعات وتقدمها؛ فمنذ القرن الثامن عشر، بدأت الجامعات والمؤسسات التعليمية في تأسيس نفسها كمراكز للبحث والتفكير العميق، ما أثرى الإنسانية بمجموعة من المفاهيم والنظريات المبتكرة ساهمت في صناعة المعرفة وصياغة التنوير. لكن الأكاديميا الغربية كانت دوماً متشابكة بشكل لا ينفصم مع الاستعمار، وخاصة الإمبريالية البريطانية ابتداءً ثم تبعتها الأميركية، ولطالما اعتمد الغرب على المعرفة في استغلال الشعوب المستعمرة، من نواح كثيرة، وما انفك ذاك الإرث يسود العالم اليوم.
وقلما يذكر التاريخ ثائراً أكاديمياً على منظومة الإمبرالية الاستعمارية، يفضحها بشراسة ويعريها من أثواب التجميل والخداع مثلما يفعل نعوم تشومسكي، فيلسوف اللغة وعالم اللسانيات الأميركي، يهودي المولد إنساني الفطرة والخيار. أثر تشومسكي وتأثر بالكثير من العلماء ضمن مجموعة واسعة من المجالات الأكاديمية، ولا يزال يعتبر، وهو في الخامسة والتسعين، أبرز منتقد للسياسة الأميركية والنيوليبرالية ورأسمالية الدولة المعاصرة ووسائل الإعلام الموجهة؛ منذ ستينيات القرن الماضي حين وضع على قائمة الرئيس الأسبق نيكسون لأعداء النظام، وزج به في السجن. تظهر آراء تشومسكي جليةً في أبحاثه ومؤلفاته التي تعدت 150 كتاباً وتحمل ما يقارب نصف مليون استشهاد علمي. أحد أهم آرائه تتمثل في موقفه من الأكاديميا الغربية وتواطأ جزء عظيم منها مع المؤسسة السياسية والصناعية والاقتصادية التقليدية التي تنتهج سبلا استعمارية وإمبريالية ناعمة وخشنة، للهيمنة على الشعوب، ومنها الشعوب الغربية نفسها. ولعل كتابه “من يحكم العالم؟”؛ الذي صدر عام 2016، أفضل ما يوضح ذاك الموقف، وفي فصله الأول تحديداً تحت عنوان “مسؤولية أصحاب الفكر”، حين يتحدث عن صنفين من المثقفين، الأول ذاك الذي يدافع عن العدالة ويناهض جبروت الظلم والبطش بشجاعة ونزاهة وعادةً ما يدفع الثمن غالياً بالإقصاء والتهميش والشيطنة، كما يضرب سقراط مثالاً للمثقف الصادق الذي طرح آراءً نقدية وفلسفية حول ديمقراطية الرعاع فعوقب بالسم، بل يذهب تشومسكي أبعد من ذلك باعتبار الأنبياء الذين انتقدوا أفعال السادة والملوك والأثرياء، وقدموا تحليلات جيوسياسية وحلولاً إصلاحية اجتماعية واقتصادية وأخلاقية، وحذروا من السياسة الرعناء التي تؤدي إلى الكوارث، ودعوا إلى مساعدة الفقراء والطبقات الضعيفة من شيوخ وأرامل وأيتام وأطفال، فسُجنوا وعذبوا وقتلوا، والأمثلة التاريخية زاخرة بهكذا أحداث وقصص شبيهة.
أما الصنف الثاني للمثقف فذاك الذي يقدم نفسه لخدمة الدولة ويحظى بالامتيازات المادية وبالاحتفال والثناء والتقدير المعتاد، وبنفس أسلوب الثواب والعقاب النمطي المألوف عبر التاريخ. يسوق تشومسكي عديد الأمثلة على التباين الشاسع بين صنفي المثقفين في مواقفهم التاريخية، كالبيان الذي أصدره الثلاثة وتسعون مفكراً ألمانياً، الذين أيدوا فيه خوض الحرب العالمیة الأولى كأمة جيرمانية متحضرة تدافع عن إرث غوته وبیتهوفن وكانط المقدس، بينما مفكرون في جانب الحلفاء هللوا للانخراط في أتون تلك الحرب الشعواء بدوافع أخلاقیة وقيمية ودينية. كما يسرد تشومسكي عدة أمثلة على ممارسات أولئك المثقفين في تزيين الفاحشة لساسة الإمبريالية في سعيها للهيمنة على الشعوب، وكيف تقمصوا أدوار الدعاة والوعاظ للسلاطين، “حسب مقولة المؤرخ العراقي الراحل علي الوردي”، من حرب الكوريتين لفيتنام، ثم حرب الموز والكوكائين في الجارات الجنوبية، وسرقة أفريقيا؛ موارد وبشر، إلى تدمير العراق ويوغسلافيا والثورات البرتقالية الناعمة، إلى الربيع العربي القاحل القاحط، إضافة للحرب على البيئة والمناخ وجنون السباق نحو النووي والسلاح.
حال المثقف العربي الصادق أصعب من نظيره الغربي وأكثر تعقيداً من كافة الوجوه، حيث العقاب أقسى وأشد، فالسجن برزخ والجوع ذل والغربة منفى، والثمار مرة نادرة، كما البيئة الفكرية مشتتة، والمجتمع منغلق وماضاوي، والخصوم كثر والأنصار قليل. مهمة المثقف العربي الصادق عسيرة لكنها ليست مستحيلة، ونماذجها متعددة ووفيرة، منها الأخوان غصيب، همام وهشام، الأكاديميان البارعان وأستاذا الفيزياء، الأول في الجامعة الأردنية والثاني في جامعة الأميرة سمية للتكنولوجيا ورئيسها المؤسس. يتميز الأخوان غصيب بالمثقف العربي الصادق الهادئ؛ إذ يتسمان بالوقار والسكينة ودماثة الخلق، ولين الطرح وقوة الحجة وسعة الاطلاع وجراءة الفكر وتعلقهما باللغة العربية حيث يتعاملان معها بحرص الأم على طفلها وبر الابن لوالديه. وبينما نحا الأخ الأكبر همام للبحث العلمي وخاض في الشأن الثقافي وعمل مستشاراً للأمير الحسن بن طلال ثم أميناً عاماً لمنتدى الفكر العربي، ومد المكتبة العلمية بعشرات الأبحاث في الفيزياء الكلاسيكية والمادّة المكثفة ونظريّة الجُسيْمات المتعدّدة؛ إضافةً إلى بحوث ودراسات وكتب فكريّة وأدبيّة، فإن هشام اتجه نحو الفلسفة والفكر وحمل مشروعاً ثقافياً وعلمياً وعدداً ضخماً من الكتب والمؤلفات التي أثرت المكتبة العربية وحفزت الفكر التنويري وشحنت محاولات النهضة الحضارية العربية بطاقة معرفية غناءة ثرية بالحلول العلمية والخطوات العملية. ورغم ابتعاده عن الأضواء، إلا أن هشام غصيب أشبه ما يكون بالمثقف الصادق حسب تشومسكي أو تشومسكي ذاته بالنسخة العربية من حيث مرجعيته ومواقفه وفكره العميق والتزامه بعروبته ورسالته ودوره الأكاديمي ومشروعه العلمي النهضوي الحضاري.
يتجلى إذًا دور الأخوين غصيب في تقديم نموذج المثقف العربي الصادق والأكاديمي التنويري عبر تفسيرهما الفلسفي والعلمي للواقع العربي بصورة تجنبت غضب السلطة وبأسلوب أدبي امتزجت فيه الثقافة العربية والغربية بلوحة إبداعية تجلت في كافة أعمالهما. وعلى الرغم من الاختلاف في الأساليب والمواضيع بين نعوم تشومسكي والأخوين غصيب، إلا أنهما ساهما في صناعة المعرفة وتشكيل التنوير وقدما مثالاً ناصعاً للأكاديميا التي تجسد المكان الذي يمكن أن تتقاطع فيه الأفكار المتنوعة والمتباينة، والمحرك الرئيس للتغيير والإبداع والابتكار، والبيئة المثلى لاكتشاف الحقائق وصناعة المستقبل العربي، ما يثري النقاش ويفتح آفاقاً جديدة للتفكير، وما يستوجب الاحتفاء بهما، شعبياً ورسمياً، أردنياً وعربياً، وتكريمهما بما يليق بالعلماء والمفكرين وورثة الأنبياء.