المديونية العالمية: تطوُّرات ومحدّدات
الدكتور خالد واصف الوزني
تتحدَّث التقارير العالمية عن أنَّ إجمالي المديونية العالمية، للحكومات والأفراد والمؤسَّسات، بلغت مع نهاية عام 2022 نحو 235 تريليون دولار، وبذلك فهي تتجاوز ما نسبته 238% من الناتج المحلي الإجمالي العالمي.
بيد أنَّ تلك الإحصائية يحكمها ويتحكَّم فيها ثلاث حقائق مقلقة، الأولى أنَّ حجم رصيد النقود المتداولة في الاقتصاد العالمي تزيد على ضعفي حجم كل ما ينتجه العالم من السلع والخدمات، وهو ما قد يوحي بأن سرعة دوران النقود في الاقتصاد العالمي باتت ضعيفة، ولعل ذلك يتجسد في ظاهرة الضغوط التضخمية المستمرة منذ عدة سنوات؛ في ظل كتلة نقدية أكبر بكثير من حجم السلع والخدمات التي يتم إنتاجها.
والحقيقة الثانية أنَّ الأسباب الرئيسة لتلك المديونية تعود إلى جذور استهلاكية وليس إنتاجية، أي إنها مديونية موجَّهة لتلبية الاحتياجات الاستهلاكية والنفقات الجارية واليومية للأفراد والمؤسَّسات، بل والحكومات، ما يعني أنها مديونية غير مُنتِجة من جهة، وقد يتعثَّر جزءٌ كبيرٌ منها بسبب عدم قدرة المُقترِض على السداد، من جهة أخرى.
وهو أمر يمكن مشاهدته يومياً على جميع المستويات الفردية والمؤسَّسية، بل والدولية، ولعلَّ الأرجنتين كانت أول من أطلق ظاهرة تخلُّف الدول عن السداد، فقد واجهت حالات التعثر وعدم القدرة عن السداد لثلاث مرات على الأقل منذ نهايات القرن المنصرم وحتى الأن، وقد لحقها بها في إظهار معاناة الدول من تسديد الديون الاستهلاكية الناتجة عن العجز في تغطية النفقات الجارية من خلال الإيرادات المحلية كلٌّ من اليونان، وإيطاليا وإسبانيا.
وتعدُّ لبنان أحدث النماذج الحكومية في التخلَّف عن الوفاء بمديونيتها. وفي جميع الحالات الفردية والمؤسَّسية والحكومية، فإنَّ العامل المشترك هو استسهال المديونية لغايات ترفية استهلاكية في ظروف من السيولة الزائدة والكلفة المقبولة، أي الفوائد المتدنية والرخيصة، على إجراء إصلاحات هيكلية حقيقية، وخاصة في المالية العامة عند الحديث عن الحكومات.
أمَّا الحقيقة الثالثة المُقلِقة فهي تتمثَّل في أنَّ الحجم الأكبر من المديونية مصدره تجاري، أي من البنوك التجارية العالمية والأسواق المالية العالمية. هو أمر تشوبه ثلاث بقع سوداء، الأولى أنَّ تلك الديون هي ذات كُلَف عالية نسبياً؛ لأنها مبنية على فوائض وُظِّفَت في بنوك يحصل أصحابها على فوائد ودائعهم، وتوظِّفها البنوك لتحصل أيضاً على عوائد تغطّي تلك الفوائد وتفيض عليهم بالأرباح. والثانية أنَّ تلك الفوائد لا يمكن إعادة جدولتها إلا بِكُلَف أعلى، للسبب السابق نفسه. أمّا الثالثة فهي أنَّ تلك القروض لا يمكن استبدالها باستثمارات أو الإعفاء منها؛ لأنَّ مَن قام بإقراضها ليس مالكها، وإنما البنك الوسيط.
المحصِّلة ممّا سبق هي أنَّ كلَّ مديونية، مهما كانت نسبتها، هي مؤرقة للمدين سواء أكان فرداً أم مؤسَّسة أم دولة، وحين تفوق 60% من الدخل (الناتج المحلي الإجمالي للدولة) تصبح مؤرقة وغير مرغوبة وخطيرة، فإن كانت مديونية من مصادر تجارية، أي ليست رسمية، تصبح كابوساً مُفزعاً؛ لأنَّ كلفة خدمتها ستكون عالية نسبياً.
أما ثالثة الأثافيِّ فهي حينما تكون المديونية تفوق 60% من الناتج المحلي الإجمالي ومن مصادر تجارية، ومع ذلك ترتفع من حيث القيمة والنسبة على مدى السنوات، دون القدرة على سدادها أو تخفيضها، عندها يمكن القول: إنَّ الفرد، أو المؤسسة، أو الحكومة هي رهن التنفيذ عليه من الدائنين في أي وقت، وإن كان موضوع التنفيذ، الذي يعني الحجز على الممتلكات والأموال المنقولة وغير المنقولة بالنسبة إلى الفرد والمؤسَّسة، فإنه بالنسبة إلى الحكومات والدولة يعني الخضوع، وفقدان الاستقلالية، بل وتنفيذ الطلبات السياسية، والاجتماعية، والاقتصادية للدائنين، أو من هم من ورائهم. المديونية المقبولة عالمياً هي تلك التي أساس الحاجة إليها استثماري، ومصدرها جهات استثمارية رسمية مؤسَّسية، أو صناديق سيادية، أو سندات تنموية، على أن تكون نسبة الحاجة إليها لا تزيد على 30% من إجمالي التمويل المطلوب، مع أمكانية تجاوز ذلك، في حالات محدودة، إلى 50%، عندها ستكون رافعة مالية وليس عبئاً مالياً أو سياسياً أو اجتماعياً.