السفيرة لامبرت تثير حسرة الأردنيين وغصتهم
كتب د. عبدالحكيم الحسبان
لم يكن وصول السفيرة الامريكية الجديدة يائيل لامبرت لتولي مهام عملها حدثا عاديا في عمان. فمن راقب التغطية الاعلامية في البلاد يلحظ وبسهولة حجم المساحة اللافتة التي احتلها خبر تعيين السفيرة لامبرت، كما خبر مصادقة الكونغرس على تعيينها، كما تصريحات السفيرة في الكونغرس واعترافها بأن الشاورما الاردنية هي الافضل والاشهى على مستوى العالم.
وللتدليل على مركزية الخبر المتعلق بالسفيرة لامبرت في المشهد الاعلامي الاردني، فيكفي الاشارة إلى أن تاريخ وصول السفيرة لامبرت تزامن مع انعقاد قمة مجموعة البريكس التي تضم الصين، والهند، وروسيا والبرازيل، وجنوب أفريقيا التي تمثل ما يقرب من نصف سكان الارض، وهي القمة التي نظرت في ملفات أكثر من 40 دولة تقدمت بطلبات ترشيح للحصول على عضوة منظمة البريكس.
من يرقب التغطية الاعلامية للحدثين في عمان، يلحظ بسهولة الغياب الكامل لأي تغطية اعلامية لمجريات قمة البريكس، وكأن القمة لم تنعقد، في حين حظي وصول السفيرة الاميركية إلى عمان وتصريحاتها، وعلاقتها الخاصة بالشاورما الاردنية تغطية اعلامية مكثفة. حضرت السفيرة إلى عمان، فغابت كل أخبار قمة البريكس عن بصر الأردنيين وعقلهم. فمن يدير المشهد الاعلامي في الاردن، يرى في وصول السفيرة إلى عمان حدثا ذا قيمة خبرية واعلامية، لم يرها في قمة البريكس مع ما تحمله من بداية تحولات تاريخية تتناقض في الاصل مع كل هذا التعويل الاردني على الولايات المتحدة وسفيرتها.
ولدى وصولها إلى عمان، اطلقت السفيرة لامبرت سلسلة من التصريحات، كما باشرت مجموعة من اللقاءات وكالعادة مع تغطية إعلامية لا يحظى بها سفير أي دولة أخرى في عمان، بل لا تحظى بها كثير من الشخصيات على مستوى العالم بكامله. وكان من جملة الكلام الذي تحدثت به السفيرة الامريكية، كلام أشبه بالغزل الحار بالعلاقة الاميركية الاردنية والتي كان يحلو لها أن تصفها بالشراكة، وهي أيضا الكلمة التي كانت عزيزة على قلب زميلها أموس هوكشتاين الذي يدير كثيرا من الملف اللبناني وخصوصا ملف الطاقة وترسيم الحدود البحرية الذي مكن لبنان من انتزاع حقه بعد تهديدات عسكرية حقيقية من المقاومة اللبنانية في استكشاف النفط والغاز في المتوسط بعد اكثر من عشر سنوات من استفادة الصهيوني من حقول الغاز والنفط فيه.
منذ أسابيع وأنا أقاوم رغبتي في الكتابة عن موضوعة السفيرة وتصريحاتها والتغطية الاعلامية المبالغ بها التي حظيت بها، كما وصف سعادتها للعلاقة الامريكية الاردنية ب"الشراكة" التي نمت على مدى عقود، ولكن قدرتي على مقاومة رغبتي بالكتابة انهارت أمام الخبر الذي تم تداوله يوم أمس، ويفيد بتلبية الولايات المتحدة لطلب اسرائيلي باعفاء الاسرائليين من شرط الحصول على تأشيرات مسبقة من أجل دخول الولايات المتحدة لتصبح الدولة الواحدة وأربعين التي يحصل مواطنوها على هذه الميزة.
والحال، فإن حديث السفيرة الاميركية في عمان عن شراكة اميركية مع الاردن يثير في نفس معظم الاردنيين خليطا من المشاعر المركّبة التي يسود فيها كثير من الغضب والحزن والسخرية والاحباط وحيث واقع العلاقة بين البلدين لم يعد يثير في أنفس كثير من الاردنيين مفاهيم الشراكة والصداقة ولسان حالهم يقول أن من لديه صديق وحليف كالاميركي، فهو ليس بحاجة لأي أعداء مطلقا. فشراكة الاردنيين مع دولة كالولايات المتحدة جعلتهم وعلى مدى عقود من التجربة يشعرون بعدم حاجتهم لأية أعداء مطلقا. فما يفعله الشريك أو الحليف الأمريكي للاردن يفوق في حجم أذاه ما يفعله كل عدو حقيقي أو متخيل له.
فعلى مدى عقود طويلة، كان الاردن لصيقا جدا بالسياسات الامريكية، وكان في السياسة وفي الاعلام وفي الامن في كل مكان كان فيه الامريكيون، وتمنى عليه الامريكيون أن يكون فيه. وفي هذا الالتصاق الشديد لللاردن بالسياسات الامريكية وبمصالح الولايات المتحدة، حققت الولايات المتحدة الكثير الكثير من الاهداف والمصالح والمنافع على مستوى المنطقة بل وعلى مستوى الاقليم القريب والبعيد. وفي مقابل هذه المنافع التي حققها الامريكي فإن الحصيلة التي جناها الاردنيون من هذه العلاقة التي تسميها سعادة السفيرة بالشراكة، تبدو مثيرة للحسرة بل البكاء، بل أن قلق الاردنيين هذه الايام تجاوز كثيرا قلهم على اقتصادهم وعيشهم وخبزهم اليومي، ليصل حد القلق على وجود دولتهم، وكيانهم السياسي، ونسيجهم الوطني.
الارقام، والاحصائيات، والمؤشرات كما الوقائع تشير إلى حجم الأزمة والضائقة التي يعيشها الاردن وطنا وقيادة وشعبا برغم هذه الشراكة المزعومة التي تتحدث عنها سعادة السفيرة. فقبل اسابيع صرح رئيس المجلس الاقتصادي الاجتماعي الأردني بأن البلاد لم تشهد نموا أقتصاديا منذ حوالي العشرين عاما. وبلغة الاقتصاد الاجتماعي، فان عدم النمو على مدى عشرين عاما في الحالة الاردنية وحيث عدد السكان لا يتسم بالثبات او التناقص كحال بلد كايطاليا او رومانيا، بل إن زيادة عدد السكان هي بين الاعلى عالميا بسبب الازمات الاقليمية في فلسطين ولبنان والعراق وسوريا وحيث الاصابع الامريكية هي بين الاصابع العابثة باستقرار هذه الدول، فان غياب النمو الاقتصادي لعشرين عاما يعني تناقصا وتآكلا في مستويات المعيشة على مدى عشرين عاما، وحيث يصبح المنطق السائد هو تقاسم ما هو موجود وثابت من الثروة بدلا من زيادة هذه الثروة.
وتشير الارقام والاحصائيات المتعلقة بالاقتصاد الاردني إلى تراجع مستمر في مستويات الدخل أدى قبل اشهر إلى تخفيض تصنيف الاردن في قائمة اقتصاديات العالم لدى البنك الدولي، وحيث متوسط دخل الفرد في تراجع في مقابل زيادة فلكية في أرقام المديونية، وفي مقابل أرقام مفزعة في مستويات الفقر والبطالة والجريمة والانتحار. وإلى جانب هذه المؤشرات المقلقة، انخفضت حصة المواطن الاردني من المياه لتصل إلى إقل من 62 مترا مكعبا سنويا، وهي حصة يعجز خبراء المياه عن وصفها أو تصنيفها في مقابل 3 أو 4 الاف متر في الدول الغنية. والحال، فان مؤشرات الاقتصاد الاردني باتت تقترب كثيرا من مؤشرات اقتصاد قطاع غزة المحاصر والمستهدف اسرائيليا واميركيا.
وتحدث كل هذه التراجعات والانخفاضات في أداء الاقتصاد الاردني، برغم العلاقة الوثيقة مع الولايات المتحدة وحيث الاردن هو جزء لصيق في الحلف الامريكي في المنطقة وعلى المستوى العالم وحيث الاردن هو شريك على مستوى تحالف الناتو، كما سبق وأن وقع قبل سنوات قليلة اتفاقا أمنيا مع الولايات المتحدة يعطيها الحق في وجود عسكري في البلاد لمدة خمسة عشر عاما.
وتستند السفيرة الاميركية في حديثها عن الشراكة الاميركية الاردنية إلى تدفق المعونة الامريكية السنوية التي وصلت مؤخرا إلى ما يقترب من المليار ونصف، تتوزع ما بين معونة نقدية للخزينة، ومعونة على شكل عتاد وتدريب عسكري، ومعونات يذهب كثيرا منها لجيوش منظمات المجتمع المدني بعيدا عن الدولة بل لتغذي منطق العداء لفكرة الدولة ولتكرس اضعافها. وفي عين سعادة السفيرة، فان المليار ونصف هو رقم كبير ولكن الوقائع تشير إلى أن ما يدفعه الامريكيون على تشغيل واحدة من حاملات طائراتهم، وعلى صيانتها يتجاوز كثيرا من ينفقونه كمعونة على البلد الذي وقعوا معه اتفاقا أمنيا هاما.
لم يعد الاردنيون في معظمهم يصدقون أنهم يعيشون شراكة مع الولايات المتحدة، وهم يغرقون في ازماتهم الاقتصادية والاجتماعية الطاحنة، وهم لا يصدقون مطلقا أن الامريكي هو في موقع الشريك وهو الذي نجح في النهوض باقتصاد اوروبا المدمرة بعد الحرب العالمية الاولى، وهو الذي نهض باقتصاد الكيان ليبلغ دخل الفرد فيه حوالي الاربعين الف دولار، وهو الذي حول اقتصاد بولندا الشيوعي إلى واحد من اكثر الاقتصاديات ديناميكية في اوروبا، وهو الذي نهض باقتصاديات كوريا وسنغافورة بل وساهم كثيرا في نهوض الصين، ولكنه يبدو عاجزا حين يتعلق الامر بالنهوض باقتصاد صغير كالاقتصاد الاردني. كما أن الشعور العام هو أن الهدف الامريكي هو إغراق الاردن دولة وشعبا في أزمة عميقة تتيح للاسرائيلي لاحقا أن يفرض مشروع الوطن البديل.
وفي ذاكرة الاردنيين جملة من الاجراءات والافعال الامريكية التي لا يمكن أن تصدر عن شريك بل تصدر عن عدو ماكر. ففي ذاكرة الاردنيين قرار وقف المنحة النفطية العراقية يوم غزا الامريكيون العراق في العام 2003 ليكتوي الاردنيون بأسعار النفط. وفي ذاكرة الاردنيين حرمان الاردنيين من الفرص الاقتصادية في العراق وسوريا ولبنان نتيجة العقوبات الامريكية التي تعاقب الاردن بأكثر مما تعاقب هذه الدول. وفي ذاكرة الاردنيين تفاصيل الضغط الامريكي على دول الخليج كي تطبع مع الكيان الصهيوني، في حين يتوافق بعض اركان الادارة الامريكية مع الكيان الصهيوني في تعزيز الحصار الخليجي على الاردن وخصوصا في حقبة إدارة دونالد ترامب. وتحفل ذاكرة الاردنيين بالكثير من التفاصيل حول الضغوط التي مورست لخلق موجة هجرة غير مسبوقة من سوريا باتجاه الاردن، في حين أحجم الاقليم الغني المجاور عن استقبال لاجئ سوري واحد، بل إن بلدا مثل بولندا حشد قواته قبل سنوات على حدوده مع بيلاروسيا كي يمنع دخول اب وطفل سوريين من اللاجئين.
ولعل التعبير الاكثر مأساوية عن شكل العلاقة الاردنية الامريكية والتي تصفه سعادة السفيرة لامبرت بالشراكة فهو قرار حكومتها فتح ابواب الولايات المتحدة لكل مواطني الكيان بدخول بلادها بدون تأشيرة دخول في حين يحرم مواطني الاردن الذي تصفه بالشريك من هذه الميزة. وتكمن مأساوية شكل العلاقة الاردنية مع الولايات المتحدة، انه وفي حين يمنح الاردن الولايات المتحدة وفق الاتفاقية الامنية معها حق إدخال القوات والجنود فإن الولايات المتحدة تفرض تأشيرة دخول صعبة وشروطا صارمة واجراءات مذلة في بعض الاحيان لمن يود دخول الولاديات المتحدة. وفي حين يسمح لجنودهم بدخول البلاد، فإن علماء الاردن وكبار ساسته ورؤساء جامعاته ملزمون بالمرور الالزامي والانتظار الطويل والخضوع لمقابلات شخصية كي يتسنى لهم دخول الولايات المتحدة.