دوافع التطبيع العربي مع ”إسرائيل“ بين المجتمع والدولة والنظام السياسي

{title}
أخبار الأردن -

ورقة علمية/ إعداد: أ. د. وليد عبد الحي

دون الدخول في فقه اللغة العربية أو اللغة الإنجليزية، فإن التطبيع Normalization في مدلوله السياسي يعني “العودة للحالة الطبيعية في العلاقة بين الكيانات السياسية”، وهو ما يفترض أن الأصل في العلاقات الدولية هو الحالة السلمية لا الصراع.

وهو افتراض لا يسلم به العديد من فلاسفة هذا الميدان مثل المنظور الهيغلي Hegelian أو الماركسي Marxist في جانب الديالكتيك dialectical، أو منظور الفيلسوف توماس هوبز Thomas Hobbes، أو المنظور الدارويني Darwinian، أو منظور صدام الحضارات كما عبَّر عنه صموئيل هنتينغتون Samuel Huntington، أو المنظور الإسلامي في فهمه لموضوع التدافع، ولا تقره النظرية الغربية الواقعية في العلاقات الدولية المعاصرة بشقيها القديم (هانز مورغانثو Hans Morgenthau، ورينولد نيبور Reinhold Niebuhr)، والمعاصر (كينيث والتز Kenneth Waltz).

وحتى مفهوم “السلام” فيه توجهان هما “السلام الإيجابي” والذي يتضمن غياب كل أشكال العنف المباشر أو العنف العضوي، و”السلام السلبي” الذي يعني غياب كافة أشكال العنف غير المباشر وخصوصاً العنف البنيوي، مثل بقاء اللاجئ الفلسطيني لعشرات السنين يعيش في ظروف سياسية واقتصادية واجتماعية غير مواتية، ولا تتسق مع الوضع الطبيعي الذي تعيشه الشعوب الأخرى، أو إبقاء الفلسطيني خاضعاً لاحتلال لم توافق عليه أي دولة أو منظمة دولية، أو حرمان الفلاح الفلسطيني من استغلال أرضه واقتلاعه منها ليحل المستوطن مكانه…إلخ. وهنا لا بدّ من التمييز بين المنظور الأخلاقي للسلام كما طرحه إيمانويل كانت Immanuel Kant في مشروع السلام الدائم، وبين السلام الذي هو أحد تكتيكات آليات إدارة الصراع، وهو ما يعيدنا إلى مفهوم السلام السلبي وممارسة العنف البنيوي.

ذلك يعني أن التطبيع مفهوم ملتبس، فالحالة الطبيعية للإنسانية ليس متفقاً عليها (صراع أو سلام)، كما ان التطبيع هو جزء أحياناً من فن إدارة الصراع، ناهيك عن أن تغييب مفهوم السلام السلبي أمر يستحق التنبه له لكي لا تستره أدبيات معيارية كجزء من فن إدارة الصراع، ودون أن ننسى أن المنظور الفرويدي Freudian وطيف واسع من مفكري المنظور النفسي يرون أن البشر ينطوون في بنياتهم النفسية على النزعتين السلمية والصراعية كما يتضح في مراسلات آينشتاين وفرويد Einstein-Freud. وتكفي الإشارة إلى أن الضرر النفسي للاجئ، كما هو الحال للاجئ الفلسطيني، لا يقل وزناً عن الأضرار المادية التي تتم من خلال المصادرة والاحتلال أو التدمير خلال الحرب، ولذا فإن التعويض عن هذه الأضرار (إذا افترضنا القبول بالتطبيع) يفوق في بعض النماذج حجم التعويض عن الخسائر المادية كما جرى مع لاجئي مختلف الدول بعد الحرب العالمية الثانية.

لعل ما يسبق يمهد لطرح تساؤل دراستنا هذه وهو: هل أفرز التطبيع العربي مع “إسرائيل” نتائج تعزز “السلام” داخل كل دولة من دول التطبيع؟ أو تعزز “السلام” على المستوى الإقليمي؟ أو يقدم نموذجاً لـ”السلام” تقتدي به بقية دول العالم الأطراف في النزاعات والصراعات؟ وسنعمل على محاولة تحديد الدافع الرئيسي للتطبيع من الجانب العربي طبقاً لنتائج التحليل.

وللإجابة على هذه التساؤلات، اعتمدنا ثلاثة معايير:

1. اعتماد المنهج الكمي للقياس: فقد تناولنا أربعة مؤشرات مركزية هي: الاستقرار السياسي (وله خمسون مؤشراً فرعياً في نموذجنا هذا)، والديموقراطية (ولها خمسة مؤشرات فرعية)، ثم نسبة الانفاق العسكري قياساً لإجمالي الناتج المحلي، ثم معدل الإنفاق على البحث العلمي نسبة إلى إجمالي الناتج المحلي، ذلك يعني أن القياس هنا يعتمد على 57 مؤشراً فرعياً تغطي الجوانب الاقتصادية والسياسية والاجتماعية والعلمية، ثم قياس مستويات التحسن والتراجع لإجمالي المؤشرات المركزية من خلال التطبيع الذي مارسته تسع دول عربية مع “إسرائيل”.

2. اعتمدنا مؤشر التطبيع استناداً للدول التي تعترف بـ”إسرائيل” اعترافاً قانونياً أو التي أنشأت أي علاقات تجارية أو رياضية أو ثقافية أو اتصالات رسمية مع “إسرائيل”، وبقي هذا التواصل مستمراً ولو بأشكال مختلفة ومستويات متباينة، وشمل ذلك 9 دول عربية هي مصر، والأردن، والمغرب، والسودان، والإمارات المتحدة، وقطر، وعُمان، والسعودية، والبحرين.

3. نُقِرُّ بداية بأن التطور أو التراجع في أي بعد من أبعاد العلاقات العربية الدولية ليس مرهوناً بالتطبيع وحده، لكن المهم في مناقشتنا هذه هي تحديد مدى وزن التطبيع في نقل الواقع العربي من مستوى معين إلى مستوى أفضل، والذي يفترض أن التطبيع قام من أجله.

التطبيق:

أولاً: مؤشر الاستقرار السياسي:

يشكل الاستقرار السياسي أحد أهم مؤشرات التطور العام لأي دولة أو مجتمع، وحيث إن الاستقرار أمر تحدده متغيرات اقتصادية (مستوى الدخل أو معدل جيني Gini index لعدالة توزيع الثروة، أو معدلات النمو الاقتصادية والبطالة،…إلخ)، ومتغيرات سياسية (العنف السياسي من اغتيالات أو غيرها، أو حروب أهلية، أو تغير مستمر في الإدارات الحكومية، أو تشنج العلاقات بين مكونات المجتمع من أقليات أو طوائف أو أي هويات فرعية، أو درجة تدخل العسكر في السلطة والعمل الحكومي،…إلخ)، ومتغيرات اجتماعية (مستويات التعليم أو التمييز الجندري (النوع الاجتماعي) أو الجريمة…إلخ)، أو مؤشرات أخرى مثل اضطراب البيئة الإقليمية التي تنتمي لها الدولة وامتداد الاضطراب لها، أو انعكاسات تحولات البيئة العالمية عليها،…إلخ.

ويعتمد مقياس مؤشر الاستقرار على نموذج وضعه كوفمان Kauffmann ثم جرى تطويره، حيث يتم القياس على أساس مدرج يبدأ من صفر إلى +2.5 (استقرار إيجابي)، ومن صفر إلى 2.5– (أقصى درجات عدم الاستقرار السلبي)، وقد اعتمدنا مقياس “الاقتصاد العالمي TheGlobalEconomy.com”، مع الاستعانة بمؤشرات قياس أخرى لضبط النتائج، ولم نجد تبايناً له دلالة إحصائية مع نماذج القياس الأخرى، مما يعزز نتائج قياسنا.

وقد كشف لنا القياس، كما يتضح من الرسوم البيانية للدول موضوع الدراسة والواردة أدناه، أن دول التطبيع تراجع فيها الاستقرار السياسي بمعدل 0.78 نقطة في 6 دول، وتحسن في 3 دول بمعدل 0.70، علماً أن الدول الست التي تراجع فيها معدل الاستقرار تمثل نحو 52% من سكان العالم العربي، وهي مصر، والأردن، والمغرب، والسودان، والسعودية، والبحرين، بينما تمثل الدول التي تحسن استقرارها نحو 4% فقط هي الإمارات، وقطر، وسلطنة عُمان، وهو ما يعني أن معدل الاستقرار في الدول التسع التي تمثل 56% من العالم العربي تراجع بمعدل نحو 0.08 نقطة، وهو معدل أعلى من معدل التراجع على المستوى العالمي، والذي بلغ 0.07 للعام 2021-2022.

1. مصر:

يلاحظ أن معدل الاستقرار في مصر خلال الفترة 1996-2021 لم يغادر المنطقة السلبية (أي حالة عدم الاستقرار)، وأن أعلى درجات عدم الاستقرار كانت في حدود سنة 2013، ولكن التحسن التدريجي لم يمكن مصر من مغادرة مجموعة الدول “غير المستقرة”، وهو ما يعني أن مصر التي أقامت العلاقة مع “إسرائيل” منذ سنة 1979 (أي قبل 44 عاماً) لم يُسهم التطبيع في نقلها إلى أي مستوى إيجابي من الاستقرار، بل إن أدنى مراحل عدم الاستقرار كانت طيلة مرحلة ما بعد التطبيع، ووصلت في سنة 2022 إلى 1.02 سالب (أي ما يعني 40.8%).

2. المغرب:

تعود العلاقات المغربية الإسرائيلية إلى مرحلة ما بعد انتصار الثورة الجزائرية ونشوب النزاعات في ستينيات القرن العشرين بين المغرب والجزائر، لكن التطبيع المعلن والرسمي بدأ بعد التسعينيات من القرن العشرين، وبدأ اتجاه عدم الاستقرار في المغرب مع نهاية تسعينيات القرن العشرين، فانحدر الاستقرار من +0.31 إلى سالب 0.4، وهو ما يعني تدهور واضح كما يتبين في الرسم البياني التالي.

3. السودان:

لم يغادر السودان المنطقة السالبة من الاستقرار منذ منتصف التسعينيات، واستمر في التذبذب ليصل إلى أدنى مستويات عدم الاستقرار عام 2009/2008، ثم أخذ يتحسن (أقل سوءاً)، لكنه عاد للانتكاس مباشرة مع الانقلاب العسكري الذي قاده عبد الفتاح البرهان سنة 2019، والتقى بعده بنحو عشرة شهور مع رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو Benjamin Netanyahu في أوغندا، ووصل عدم الاستقرار إلى سالب 1.94، وهي الأعلى بين دول التطبيع على الرغم من أن البرهان برر التطبيع بالقول: “لقد قمت بهذه الخطوة من موقع مسؤوليتي بأهمية العمل الدؤوب لحفظ وصيانة الأمن الوطني السوداني وتحقيق المصالح العليا للشعب السوداني”.

ومن المؤكد أن عدم الاستقرار تعاظم إلى حدّ كبير للغاية بعد المواجهات الحالية بين الجيش وقوات الدعم السريع، أي أن العلاقة مع “إسرائيل” لم تسهم بأي شكل من الأشكال في تحسين الاستقرار في السودان على الرغم من علاقة طرفي الصراع السوداني بـ”إسرائيل”.

4. الإمارات العربية المتحدة:

إذا قارنّا بين فترة منتصف التسعينيات وبين الفترة الحالية 2022، فإن التراجع الحاد في معدل الاستقرار السياسي في دولة الإمارات واضح تماماً، لكن الفترة 2019-2015 شهدت تحسناً تدريجياً (مع الاستمرار في مجموعة الدول المستقرة)، لكن فترة 2020 إلى الآن، أي بعد الاعتراف الإماراتي بـ”إسرائيل”، وعقد اتفاقات أبراهام Abraham Accords، تحسن المستوى، لكن النظر إلى الاتجاه العام لمستوى الاستقرار السياسي في الإمارات خلال 28 عاماً يشير إلى أن المسار متذبذب دائماً، وأن التحسن في الفترة ما بعد الاعتراف بـ”إسرائيل” هو امتداد للظاهرة الواضحة ما قبل الاعتراف، مما يجعل دور الاعتراف في التحسن ليس خروجاً عن قاعدة التذبذب بل تكريساً لها، ناهيك عن أن مستوى الاستقرار كان أفضل في مرحلة ما قبل التطبيع.

5. قطر:

بدأت العلاقات التجارية القطرية مع “إسرائيل” سنة 1996، بعد فتح مكتب تجاري إسرائيلي في قطر، وتكررت الزيارات واللقاءات بين المسؤولين القطريين والإسرائيليين، ناهيك عن السماح للفرق الرياضية الإسرائيلية بالمشاركة في المنافسات الرياضية، وإتاحة الفرصة للجمهور الإسرائيلي للحضور إلى ملاعب الدوحة، كما جرى في سنة 2022.

ويشير معدل الاستقرار السياسي القطري إلى أنه بقي مثل الإمارات في المنطقة الإيجابية، وارتفع معدل الاستقرار بشكل واضح مع فترة التقارب واللقاءات مع “إسرائيل” بعد سنة 1996، لكنه تراجع بعد سنة 2016 (دون مغادرة المنطقة الإيجابية)، وعاد للتحسن بشكل واضح منذ سنة 2019 ليصل مع نهاية الفترة سنة 2022 إلى +0.96، لكن هذا المستوى أقل من الدرجة التي بلغها الاستقرار عام 2012/2011 عندما لامس حدود 1.22، مما يضعها ضمن الدول المستقرة بشكل واضح. لكن من العسير ربط هذا التحسن في تلك الفترة بأي تغير جوهري في العلاقات الإسرائيلية القطرية، ففي الوقت الذي كانت قطر تطالب بالتحقيق في أعمال “إسرائيل” في القدس، كان التبادل التجاري القطري الإسرائيلي يتحسن على الرغم من أن القيمة الإجمالية لهذا التبادل هامشية للغاية ولم تصل إلى المليون دولار طبقاً للمكتب الإسرائيلي للإحصاء.

وعلى الرغم من احتدام الصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين عام 2009/2008، فإن الزيارات واللقاءات بين المسؤولين من قطر و”إسرائيل” لم تتوقف، وكانت فترة 2009/2008 هي من بين أعلى فترات الاستقرار السياسي في قطر، أي أن السلوك الإسرائيلي ضدّ الفلسطينيين لم ينعكس على الاستقرار السياسي في قطر، واستمر الكتّاب والإعلاميون الإسرائيليون يطلون من على شاشات قناة الجزيرة لشرح موقف الطرف الإسرائيلي على الرغم من صدور ميثاق مواجهة التطبيع الإعلامي مع “إسرائيل” سنة 2018، وهو ما يعني أن خلخلة الاستقرار السياسي في قطر (حصار قطر وقطع العلاقات الديبلوماسية معها في سنة 2017)، قد تكون في أحد أبعادها ردة فعل عربية على النهج الإعلامي لقناة الجزيرة أكثر منه نتيجة للعلاقة مع “إسرائيل”.

6. عُمان:

على الرغم من أن عُمان لم تشارك في أي جهد عسكري ضدّ “إسرائيل” منذ احتلال فلسطين، ولكنها أجرت بعض العلاقات التجارية مع “إسرائيل” منذ 1994، ثم بدأت اللقاءات بين المسؤولين العُمانيين والإسرائيليين وكان من أبرزها لقاء رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق إسحق رابين Yitzhak Rabin سنة 1994 مع السلطان قابوس بن سعيد، ثم في سنة 2018 التقى السلطان برئيس الوزراء الإسرائيلي نتنياهو، وكان الطرفان قد فتحا مكاتب تجارية بينهما سنة 1996.

وتمثل سلطنة عُمان الدولة الثالثة في الدول العربية التي تقع في منطقة الاستقرار السياسي، لكن الملاحظ أن هذا الاستقرار يتراجع بشكل واضح خصوصاً بعد عام 2003/2004، ووصل إلى أدنى مستويات في السنتين 2011 و2013، ثم عاد للتحسن بين 2015 و2017، لكنه عاد للتراجع حتى سنة 2020، ثم تحسن قليلاً في عام 2021/2022. ولا يبدو بأي شكل من الأشكال أن العلاقة مع “إسرائيل” لها انعكاس على معدل الاستقرار سلباً أو إيجاباً، مما يعني أن عُمان شأنها في ذلك شأن الإمارات لم تجنِ تحسناً في الاستقرار السياسي بفعل المتغير الإسرائيلي.

7. السعودية:

على الرغم من أن التطبيع بين “إسرائيل” والسعودية غير قائم بالمعنى الرسمي، كما أنه ما زال في إطار الغموض، لكن أبرز مؤشراته هو فتح المجال الجوي السعودي (ولو بقدر من الالتباس والتضارب في المعلومات حوله) أمام الطيران المدني الإسرائيلي، والسماح لبعض الإعلاميين الإسرائيليين أو الرياضيين بدخول السعودية. وعلى الرغم من أن مبادرة “السلام” العربية التي طرحتها السعودية سنة 2002 تمثل في مضمونها استعداداً سعودياً لقبول “إسرائيل” كدولة شرعية في المنطقة، إلا أن رفض “إسرائيل” للمبادرة لم يعطِ السعودية مجالاً لتطوير العلاقة مع “إسرائيل”، ويبدو أن مستويات الاستقرار في السعودية لا صلة لها بشكل واضح بالعلاقة الإسرائيلية السعودية، بل إن متغيرات أخرى هي المسؤولة عن التغير في مستويات الاستقرار السياسي في السعودية، على الرغم من أن الموقف من “إسرائيل” قد يمثل خصوصاً لدى المجتمع والنخب عاملاً مساعداً، لا مركزياً، في حركية الاستقرار أو عدمه، مع ملاحظة أن المجتمع السعودي لا ينطوي على مجتمع مدني، بالمضمون السياسي المتداول في العالم.

ويدل الرسم البياني على أن بداية تراجع معدل الاستقرار من المستوى الإيجابي إلى المستوى السلبي جاء بعد إعلان مبادرة “السلام” سنة 2002، فقد هبط بعدها الى أدنى مستوياته وهو سالب 0.65، ثم عاد ليتحسن دون مغادرة المنطقة السالبة منذ سنة 2002 إلى الآن.

ويبدو أن الصراع على ولاية العهد خلال الفترة من 2015 (تعيين محمد بن سلمان ولياً لولي العهد، وعزل كلاً من الأمير مقرن ومحمد بن نايف) إلى سنة 2017 وتولي محمد بن سلمان ولاية العهد، هي التي تفسر التراجع في الاستقرار السياسي الذي يظهر في الرسم البياني. والملاحظ أن تلك السنة هي الأدنى في معدل الاستقرار السياسي السعودي، ومنذ تلك الفترة وحتى نهاية 2022، بقيت السعودية في خانة الدول غير المستقرة وبمعدل 0.58–، وما تزال في مرحلتها الحالية ضمن الأقل استقراراً قياساً بالمراحل السابقة، لكن الملاحظ أن العلاقة مع “إسرائيل” ليست هي المحدد لهذه التحولات في معدلات الاستقرار، مما يعني هامشية هذه العلاقة في مؤشر عدم الاستقرار (قياساً للمؤشرات الداخلية في البنية السعودية ذاتها).

8. البحرين:

تدرَّجت العلاقات البحرينية الإسرائيلية من تبادل الزيارات الرسمية بدءاً من سنة 1994 إلى تداول التقارير الصحفية عن سلسلة لقاءات سرية بين كبار المسؤولين في الطرفين خلال الفترة 2009-2007، وصولاً لتبادل الاعتراف الرسمي وفتح البعثات الديبلوماسية خلال الفترة 2021-2020.

وثمة سمة محددة في المجتمع البحريني تميزه عن بقية دول مجلس التعاون الخليجي، وهي وجود مؤشرات غير رسمية عن أن أغلبية السكان في البحرين من الشيعة، ويتسمون بوجود تنظيمات سياسية بينهم يغلب عليها المعارضة والعداء لأي تطبيع مع “إسرائيل”، ولعل تأثير ذلك على مستوى الاستقرار في البحرين هو الأوضح قياساً لدول مجلس التعاون العربي ككل، ولعل ذلك هو أيضاً المسؤول بقدر ما عن نسبة من عدم الاستقرار في السعودية التي يمثل الشيعة فيها بين 15-10%.

ثانياً: مؤشر الديموقراطية:

على الرغم من أن معدل الديموقراطية في العالم بلغ سنة 2022 ما يساوي 5.29 من 10، فإن المعدل في الدول العربية كلها (20 دولة) هو 3.34 نقطة، لكن إذا نظرنا إلى الديموقراطية في دول التطبيع سنجد النتائج التالية:

1. إن معدل الديموقراطية في دول التطبيع هو أدنى من معدلها في بقية الدول العربية، فقد بلغ في دول التطبيع التسع 3.09، أي أقل من المعدل العربي بما يساوي 0.25 نقطة، وهو ما يعني أن دول التطبيع العربي هي أكثر تراجعاً في مستوى الديموقراطية من المستوى العربي، الذي هو في مستوى متدنٍ مقارنة ببقية دول العالم.

2. لو قارنا بين دول التطبيع على أساس تاريخي سنجد أن الدولة الأقدم في التطبيع (مصر) هي الأكثر تراجعاً في الديموقراطية، وهو ما يعني أن الانغماس في التطبيع لا يحمل معه تغذية للديموقراطية في المنطقة، ويلاحظ أن عدد دول التطبيع التي تراجعت فيها الديموقراطية خلال الفترة 2022-2012، هو 5 دول من تسع هي: مصر،  والمغرب، وسلطنة عُمان، والبحرين إلى جانب السودان التي تعيش أسوأ مراحل تاريخها المعاصر بعد الحرب بين الجيش السوداني وقوات الدعم العسكري السودانية، حيث تعطلت الحياة السياسية أغلب أجهزة الدولة.

ثالثاً: مؤشر الإنفاق العسكري إلى إجمالي الناتج المحلي:

انخفض المعدل العالمي للإنفاق العسكري قياساً إلى إجمالي الناتج المحلي العالمي من 2.3% سنة 2013 إلى 2.2% سنة 2022، بينما عند تفحص معطيات الواقع العربي في مجال الإنفاق العسكري نجد ما يلي:

1. بلغ معدل الإنفاق العسكري إلى إجمالي الناتج المحلي في دول التطبيع نحو 4.03%، أي بزيادة عن المعدل العالمي بنحو 83%.

2. إن الإنفاق العسكري في أربع من دول التطبيع ارتفع خلال الفترة 2014/2013 بينما تراجع الإنفاق في خمس منها، لكن المعدل العام لكل من المجموعتين يبقى أعلى من المعدل العالمي.

3. لو حسبنا معدل الإنفاق لدول مجلس التعاون الخليجي التي تمارس التطبيع خلال الفترة 2021-2014 سنجد أن هناك تراجعاً في المعدل العام من 6.61 سنة 2014 إلى 5.04 سنة 2021، ويلاحظ أن قطر هي الدولة الأكثر زيادة في الإنفاق العسكري خلال فترة المقارنة، لكن الأمر الملفت للنظر هو أن معدلات الإنفاق تبقى في دول التطبيع الخليجية أعلى بأكثر من الضعف من المعدل العالمي.

رابعاً: مؤشر الإنفاق على البحث العلمي:

كثيراً ما جرى تبرير التطبيع مع “إسرائيل” على أساس أنها منفذ للتطور العلمي والوصول للتكنولوجيا المتطورة بحكم صلاتها بالدول الصناعية، ومع أن المعدل العالمي لنسبة الإنفاق على البحث العلمي بلغت في الفترة 2022/2021 نحو 2.63%، فإن معدل الإنفاق على البحث العلمي في دول التطبيع بلغ 0.77%، أي أنه يساوي 29.27% من المعدل العالمي، بل إن الترتيب العربي عالمياً تراجع متوسطه 4 مراتب خلال العامين الماضيين من المرتبة 103 إلى المرتبة 107، وفي مجال الابتكار تراجع المعدل العربي مرتبتين من 81 إلى 83.

التحليل:

تفترض أدبيات العلاقات الدولية أن المصلحة تمثل المحرك الرئيسي وليس الوحيد لنسج شبكة العلاقات الدولية، ولكن السؤال المركزي هو مصلحة من؟ ففي هذه المسألة هناك ثلاثة أطراف يفترض أنها الجهات التي ستستفيد من تلك المصلحة المأمولة وهي المجتمع (بتحقيق الرفاه والاستقرار والتطور في مختلف الأبعاد)، والدولة (بالحفاظ على سيادتها واستقلالها وإقليمها ومواردها ومكانتها الدولية والإقليمية)، ثم النظام السياسي (بالاستمرار في السلطة كحزب أو كحاكم لتحقيق رؤيته السياسية أو مكاسبه الذاتية).

لكن النظر في قرارات الدول العربية لتبني وممارسة التطبيع مع “إسرائيل” يكشف عن النتائج التالية:

1. تبين من القياس الكمي لأربعة مؤشرات مركزية، لها 57 مؤشراً فرعياً تغطي الأبعاد الاقتصادية والسياسية والاجتماعية المختلفة، أن التطبيع لم يعزز أي من هذه المؤشرات، فدول التطبيع ومعها بقية الدول العربية هي الأسوأ عالمياً في مستوى الاستقرار ومستوى الديموقراطية وفي الإنفاق العسكري وفي تطوير البحث العلمي، وأن التطبيع لم يحسن من هذه المؤشرات المركزية أو الفرعية، وهو ما يعني انتفاء تحقيق مصالح مجتمعية.

2. اعتماداً على مقياس المسافة السياسية Political Distance لقياس مستويات العلاقات البينية العربية، فإن التطبيع أدى إلى مزيد من تشنج العلاقات البينية العربية بين المؤيدين والمعارضين له، وهو ما يسهم في تعزيز عدم الاستقرار وفي تدني مستويات الديموقراطية، بل إن التجارة العربية البينية تراجعت مع تزايد التطبيع، فقد مثلت نسبة الصادرات السلعية البينية العربية حصة قدرها 18.6% من إجمالي الصادرات السلعية العربية للعالم الخارجي خلال سنة 2021 مقارنة مع 20.7% سنة 2020، وفي مجال الواردات انخفضت من 18% سنة 2020 إلى 17.4 سنة 2021.

3. إن نسبة المعارضة الشعبية العربية للتطبيع طبقاً لعشرات استطلاعات الرأي تدل على تباين بين توجهات الأنظمة السياسية وبين المجتمعات، مما يزيد من الفجوة بين الطرفين ويعزز احتمالات تزايد وتيرة عدم الاستقرار، بل قد يفسر تزايد عدد التنظيمات السياسية السرية.

4. من الواضح أن التطبيع لم يجلب أي مكاسب أو مصالح لا للمجتمعات ولا للدول (والمؤشرات السابقة تؤكد ذلك)، ويبدو أن الوعود التي أطلقها المطبِّعون بأن التطبيع سيدفع إلى تحسين ظروف الفلسطينيين لم يتحقق في ظلّ توالي الاعتداءات وبوتيرة أعلى من فترات ما قبل التطبيع، كما تواصل بناء المستوطنات مع استمرار الاعتقالات وهدم البيوت واستباحة المسجد الاقصى، بل إن التوجه العام للحكومة الإسرائيلية نحى نحو مزيد من نزعات التطرف واليمينية، وهو مخالف لكل التبريرات التي قادها المطبِّعون.

ومن الواضح أن بعض النظم مثل السودان كانت تريد أن تحصل على رفع اسمها من قائمة العقوبات الأمريكية أو الغربية (مثل السودان)، أو أن تتلقى مزيداً من المساعدات الدولية والتي غالباً ما تكون مساعدات مشروطة سياسياً، وهو ما يعني أن أمن الأنظمة العربية يعلو على أي مصالح أخرى مجتمعية أو تمس سيادة الدول، وهو ما أوضحته مؤشرات هذه الدراسة.

ومن الواضح أن الأنظمة السياسية العربية المُطبِّعة قايضت التطبيع مع “إسرائيل” بغض الطرف الأمريكي عن الاستبداد السياسي في هذه الدول (خصوصاً الديموقراطية، أو حقوق الإنسان، أو موضوع الأقليات، أو تشكيل مجتمع مدني، أو حقوق المرأة، أو حريات الإعلام،…)، والذي تُلوِّح به أمريكا في وجه هذه الانظمة كلما حاولت الاستقلال بقراراتها عن التأثير الأمريكي. بل وطبقاً لمراكز الدراسات الأمريكية، فإن بعض الدول العربية مثل السعودية وظَّفت إمكانية التطبيع وتوسيعه مع “إسرائيل” مقابل غضّ النظر الأمريكي عن “الديموقراطية وحقوق الإنسان” التي تستخدمها الولايات المتحدة كذريعة للتدخل في سياسات الأنظمة السياسية العربية.

5. ثمة بُعد نفسي لا يجوز تجاوزه في موضوع التطبيع، بل لا بدّ من التذكير بأن السادات رأى أنّ “الحاجز النفسي بين العرب وإسرائيل يشكل 70% من المشكلة”.

واستناداً لبعض نصوص الاتفاقيات العربية الإسرائيلية، مثل النقطة الثانية – الفقرة الثالثة من المعاهدة المصرية الإسرائيلية، فإن التطبيع ينطوي على إعادة تعريف القيم السياسية والاجتماعية الذاتية، وإعادة تحديد الهوية الذاتية للذات والآخر لطرفي النزاع، فيصبح العدو صديقاً، والاحتلال مشروعاً، والتهجير أمر سيادي لا يجوز التدخل فيه، وتغيير المناهج التعليمية والخطاب الإعلامي ليتسق مع الواقع الجديد…إلخ.

ويبدو أن مقولة ابن خلدون “المغلوب مولع بتقليد الغالب” تعني أن المغلوب تتكرس لديه مشاعر الدونية تجاه الغالب، فالغرب كان هو المسيطر والمستعمر في الذهن العربي، وهو صاحب اللغة السائدة، وهو الأكثر تطوراً علمياً، والأقوى اقتصادياً وعسكرياً، كل ذلك يكرس تصوراً دونياً للذات عند النخب والقيادات خصوصاً في الدول الصغيرة أو ذات المجتمع البدائي أو المتخلف، فظهور الزعماء العرب أو النخب العربية بجوار قادة “العالم العلوي” يمنحهم إحساساً موهوماً بالتحرر من الدونية القابعة في أعماقهم، ويكفي مراجعة الخطابات السياسية للزعماء ولإعلامهم عندما ينشب خلاف بين دولتين عربيتين ومقارنته بالخطاب حين ينشب خلاف مع دولة كبرى، ولعل الطريقة التي تعامل بها دونالد ترامب Donald Trump مع بعض القيادات الخليجية كافٍ للتدليل على ذلك.

ويسهم تعظيم الذات، من خلال الظهور بجوار “قادة عظام”، أو الظهور الواسع على وسائل الإعلام الدولية الكبرى، والاستماع إلى مفردات التبجيل…إلخ، في إيهام العقل الباطن بالتحرر من عقدة الدونية حتى ولو على حساب الآخرين.

ويبدو أن التطبيع فتح المجال لبعض القيادات العربية للظهور الواسع وللحضور إلى المنتديات الفكرية العالمية، وفتح الباب للتخلص من أحاسيس الدونية العميقة لدى بعض هؤلاء الزعماء، ولتتعمق لديهم عقدة الإنكار في مواجهة رفض شعوبهم لقرارات التطبيع، وهو ما يتسق إلى حدٍّ بعيد مع نظرية ليون فيستنغر Leon Festinger حول “عدم الاتساق المعرفي Cognitive dissonance”، حيث تطغى التحايلات المعرفية لتبرير سلوك لا يتسق مع معطيات الواقع.

الخلاصة:

1. لم يقدم التطبيع أيّ مؤشرات إيجابية للدول العربية التي انتهجته، وهو ما أكده القياس الكمي لفترة طويلة ولعدد كافٍ من المؤشرات الدالة.

2. إنّ الفجوة بين المجتمع والحاكم بين الدول العربية اتسعت بسبب مساحة المعارضة الشعبية للتطبيع مما زاد من احتمالات المزيد من النتائج السلبية للتطبيع، وهو ما يُستدل عليه من عشرات الاستطلاعات الغربية والعربية للرأي العام العربي.

3. من الواضح أن بعض الدول العربية تستخدم التطبيع مع بعض الدول العربية المساندة للمقاومة الفلسطينية من أجل لجم، قدر الإمكان، النقد السياسي والإعلامي من هذه الدول للتطبيع مع “إسرائيل”، خصوصاً في ظلّ تزايد دور وسائط التواصل الاجتماعي الإعلامية والتي أصبحت أكثر تأثيراً.

4. إن المسافة السياسية، كما ظهر من المؤشرات، تباعدت بين الدول العربية خلال فترات التطبيع، ويكفي متابعة تراجع أداء الجامعة العربية، والتنافر داخل مجلس التعاون الخليجي، وشبة الشلل للاتحاد المغرب العربي، ناهيك عن الاضطراب الواسع والاتهامات المتبادلة بين الدول العربية.

5. إن التطبيع العربي مع “إسرائيل” هو تطبيق لديبلوماسية الاسترضاء Appeasement diplomacy، التي تعني تقديم التنازلات لطرف آخر لضمان عدم استمرار العداء من ذلك الطرف، كما جرى مع بعض الدول الأوروبية في فترة النازية، إذ تدل المعطيات خصوصاً في فترة الرئيس ترامب إلى أن التطبيع من قبل الأنظمة العربية مع “إسرائيل” هو لتجنب الضغوط الأمريكية في بعض الجوانب والسلوكيات السياسية الداخلية في الدول العربية، فيتم تقديم مكاسب أكبر للولايات المتحدة مقابل مساندة أمريكية للنظام السياسي للبقاء في السلطة، وهو ما يعني أن التطبيع لا يخدم أهداف الدولة ولا أهداف المجتمع، كما بيَّنا ذلك، بل محصور في دوافع الأنظمة.

تابعونا على جوجل نيوز
تصميم و تطوير