بعقل بارد بعيدا عن العاصفة
ما يزال مفهوم "الحزبية" رهين معطيات الماضي "قريبه وبعيده"، وما زلنا نتعاطى مع فكرة الأحزاب في الأردن كمنابر للاحتجاج ونتموضع فيها دوما كخندق مقابل للسلطة، لا شريكا محتملا في السلطة.
وما يزال كثير من الحزبيين "من اليمين إلى اليسار إن جاز لنا استخدام التصنيف" يحملون الإرث السياسي لمجمع النقابات في تحركهم "الحزبي" عبر الاعتراض والصوت المرتفع والاحتجاج بالصيغ المتاحة والمكررة.
الأحزاب، هي برامج إدارة وحكم متنوعة أمام أزمات وقضايا يواجهها المجتمع كله، وهذا يعني وضع حلول للدولة في مواجهة أزمات حاضرة وحقيقية لا يمكن إنكار وجودها.
مثلا – والأمثلة كثيرة ومتعددة- آخر أزماتنا الجدلية في مشروع قانون الجرائم الإلكترونية، وهي وليدة لمشكلة ليست جديدة والحديث فيها مستمر لا ينقطع منذ بدأ العالم الافتراضي عبر وسائل تواصله "اللااجتماعي" بالسيطرة على تفاصيل حياتنا ومعيشتنا مقابل فراغ معلومات تضن به السلطات وتبخل به المؤسسة الرسمية فصارت الإشاعات تحل محل الحقائق الغائبة والتضليل وجد طريقه في التسريبات التي صار الحصول عليها بطولة "صحفية" وهي ليست كذلك.
حتى أن الملك نفسه كتب مقالا نشرته الصحف الأردنية في أكتوبر من عام 2018 كان عنوانه (منصات التواصل أم التناحر الاجتماعي؟).
أتابع حراك الأحزاب الناشئة التي تستعد "افتراضا" لخوض انتخابات العام المقبل، فلا أرى إلا نسخة مكررة من ذات صيغة الاحتجاجات التي اعتدنا عليها منذ عقود أمام مجمع النقابات، والدعوات لعواصف احتجاج "إلكترونية" (!!)، وأتساءل : كيف يمكن لعاصفة احتجاج إلكترونية غير قادرة على إثارة ذرة غبار على أرض الواقع أن تدخل في العملية الدستورية للتشريع وتكون جزءا مؤثرا فيها؟
على أرض هذا الواقع، شئنا أم أبينا، هناك مسار دستوري واضح للتشريعات، والتشريع مثار الجدل هو مجموعة نصوص وضعها طرف واحد يمثل السلطة، لكن لا يمثل الدولة كلها، فالدولة "وهو المفهوم الصحي الذي يجب أن ندركه" هي الجميع بما فيهم تلك الأحزاب التي التأمت مستعدة لخوض انتخابات تشريعية قادمة، بمعنى أنها "افتراضا أيضا" لديها رؤية حكم وإدارة للأزمات وبرامج جاهزة على شكل تشريعات محتملة ومقترحات حلول للأزمات.
قد أكون غفلت في مراقبتي، لكن لم أجد حتى الآن مسودة مشروع قانون اقترحها أي حزب أردني يكون بديلا عن مشروع القانون مثار الجدل الذي سيشرعه البرلمان "غالبا" رغم كل "العواصف" الإلكترونية الراهنة.
الاحتجاج حالة صحية، لكن لا يكتمل مفعول الاحتجاج بدون طروحات بديلة وواقعية من رحم أزماتنا، وفي الديمقراطيات فإن حضور الأحزاب يعني تداولا "مفترضا" للسلطة قائما على برامج معدة بعناية لكل الأزمات والمشاكل تعكس رؤية التيارات المختلفة للحلول المفترضة.
لست متفائلا بإجهاض مشروع قانون الجرائم الإلكترونية، فالإصرار واضح من السلطات في الدولة على تمريره، لكن ربما لدينا نوافذ أمل واسع في أحزاب تتقدم بمشاريع قوانين تنظم فوضى "العالم الافتراضي" على أرض الواقع، وتطرحها على الجميع ضمن حزمة برامج واسعة لكل أزماتنا الحقيقية بدءا من شح المياه وليس انتهاء بأزمات اجتماعية واقتصادية وسياسية تبحث عن حلول حقيقية.
في مقال الملك المنشور عام 2018 أجدني أقتبس التالي:
(تخيلوا إن سيطر الخوف على المسؤولين فأقعدهم عن اتخاذ قرارات تصب في مصلحة الوطن والمواطن، أو دفعهم للتسرع في اتخاذ قرارات ارتجالية؟ إن لم يكن في متناول المواطنين حقائق ومعلومات موثوقة، كيف لهم أن يتخذوا قرارات مدروسة، ويشاركوا في حوار وطني مسؤول حول المواضيع المفصلية؟).
ما هي الإجابة على تساؤل الملك في عام 2023؟