ضحايا وآلام وشِعرٌ طازج
إبراهيم جابر إبراهيم
يشكل المكبوت العاطفي عندنا نحن العرب، مكوّناً رئيساً، ومدهشاً، من مكونات ثقافتنا، ولغتنا، يظهر ذلك كل ساعةٍ في تعاملنا مع السياسة والفن والحب والتربية والأدب، .. فدائماً ثمة شكوى حارّة، وأنين، ودائماً هناك ضحية وألم طازج، وثمة عتب هائلٌ على شخصٍ ما.
عتب في الأغنيات، عتب في المقالات، عتب في حوار الزملاء صباحاً قبل العمل، عتب بين البائع والزبائن، وعتبٌ متأخر بين الأجيال على ما أورثت بعضها من نكسات وخسارات و(أسواء فهم) كثيرةٍ، لا تنتهي!
المتابع لمواقع الحوار والتواصل الاجتماعي، يكتشف أنها عندنا، نحن العرب، ليست مواقع تواصل بقدر ما هي مواقع تنفيس، ومواقع لكلام باتجاهٍ واحد وليس حواراً بين جهتين أو جهات، ويكتشف أيضاً أن مخزوننا من العويل العاطفي لا يمكن تخيله، ولا حتى تحمله!
فهل كل العرب عشاق خاسرون؟ وهل كل النساء العربيات نساء مخذولات ومهجورات وتعرضن لمعركةٍ حاميةٍ أو تجربةٍ دراميةٍ مع الرجال؟!
من الذي قرر أن التعامل العربي مع الإنترنت ومواقع مثل "فيسبوك" ينبغي أن يكون تعاملاً عاطفياً بالدرجة الأولى، ولماذا ارتبطت الكتابة على هذه المواقع عندنا بالنواح العاطفي، أو الوطني. لماذا نحبُّ دور الضحية ونستميت من أجله؛ (رغم أننا حتى هذا لا نجيده تماماً)!
فالمهندس وطبيب الأسنان والنجار وعامل الورشة والشرطيّ بعد دوامه وصاحب المطعم والعامل في المطعم كلهم يكتبون عن الحب واللوعة والتجربة المرّة، ويقدمون خبراتهم العظيمة في الخسارة، لكن لا أحد فكر مرة بأنه يمكن أن يقدم فائدة كبيرة فعلاً، وشيئاً جديداً لو هو أشرك الناس بخبراته هو، في تخصصه، وأسهم بإغناء هذا الفضاء المفترض للحوار بشيء آخر.. سوى طموحه أن يصير شاعراً!
الشعر صار مهنةً إضافيةً يمارسها كل العرب بعد الظهر؛ بمجرد انتهاء الدوام الرسمي!
لا أعرف كيف ينجب العالم المتقدم العلماء، وكيف يخلق مناخات التفكير المبدع والخلّاق، لكنني أشكُّ بأنهم يقضون هذا الوقت الهائل الذي نقضيه في التحسّر والعتاب، وينفقون ما ننفق من أرواحنا في جلد الذات وتعذيبها، وعرضها للفرجة أمام الناس كذات معذبةٍ ومصدومةٍ ومريضةٍ تستجدي الاهتمام، وتتسول التعاطف!
لستُ بالطبع ضد الروح العربية المرهفة؛ التي أنجبت الأدب العربي العظيم، لكنني أستهجن هذا الابتذال لكل ما هو شخصي وحميم؛ حين يُعلق في واجهات عرض سوقيّة.
ثمة فارق بين الأدب الحقيقي الذي يوظّف ما هو شخصي دون كشف أو مباشرة ركيكة، وبين تحول الناس كلهم الى ندّابين وبكّائين على الإنترنت، حيث يبدو المشهد كما لو أن آلاف المصابين عاطفياً يخرجون معاً من مستشفى واحد ويجلسون على عتبة الإنترنت يقدمون روايات تحاول كلها إقناعنا بأنهم كلهم ضحايا؛ فنسأل دائماً أين الجلادين؟! هل لهم "فيسبوك" آخر لا نعرفه!
يبدو أن الكبت العاطفي الذي نشأ معنا، وتربّى في بيوتنا، هو الذي تولّى لاحقاً زمام السيطرة على أرواحنا وقادها الى هذا المصير؛ أقصد أن نصير كلنا أمة من الكتبة والشعراء العاطفيين.
ألم يفكر واحد مرة بالصناعة؟ بالعلم؟ بتأثير البرودة على الخشب أو بنقص الحديد في الدم أو زيادة الملوحة في البحر... أو أن يفكر واحد منّا بفتح واحد من "الريموتات كونترول" الكثيرة حوله على الكنبة ليرى كيف يعمل وكيف يمكن تطويره!