لماذا لا يقرأنا الناس؟
مالك العثامنة
.. والناس هنا المقصود بهم هؤلاء العاديون جدا، الذين يدفعون رواتبنا وباسمهم نحصل نحن على مكتسباتنا الاجتماعية، ونحن هنا المقصود بها من نتوهم أننا نخب في الصحافة والإعلام والسياسة والاقتصاد والمجتمع.
فعليا، حين اكتب فقرة أو فقرتين "خارج نمطية وأصول المقال الصحفي" على صفحة الفيسبوك أجد تفاعلا من "الناس" أكثر مما أجده لديهم في مقالي المسبوك بعناية فنية ومحتوى متعوب عليه.
السر ببساطة أنني أعيش وهم اعتقاد أني أكتب مقالي للناس، لكنني في الحقيقة أحمّله مضامين ورسائل ليست للناس ولا منهم، أنا أكتب بإيحاءات عقلي الباطن الذي "تبرمج" على اتجاهات شوارع النخب. لذا فالناس الذين أعتقد أني أخاطبهم غير معنيين بالمقال الذي أكتبه عموما.
كان للمقال الصحفي زمانه الذهبي قبل عصر الإنترنت، فالناس حينها كانت أصلا لا تملك نوافذ معلومات أو معرفة إلا ما تقدمه تلك الصحف أو المطبوعات، لكنها اليوم تحمل نوافذ بحجم راحة اليد على شكل شاشة قادرة على الوصول إلى القمر ببث حي ومباشر بدون أي عناء.
وأيضا، كان الصحفي، والكاتب قريبا من "الناس" حتى في نمط حياته، كان يركب المواصلات العمومية معهم، وكان يقف في الطوابير مثلهم، وكان ممتهنا مهنته لا يتسلقها مثل اليوم ليصبح نخبة مجتمعية منفصلة عن الناس، حتى لغتنا تغيرت وصرنا نتحدث بلغة العارفين الواثقين نوظف مصطلحات كبيرة ونستعرض بالبلاغة "الاصطلاحية" لنثبت أحقيتنا في أن نكون "صانعي قرار" لا صحفيين فقط، وكل تلك اللغة مع المحتوى ليست أكثر من رسائل نتنافس في توصيلها للنخب السياسية كي نحصل على الحظوة.
حسنا، الناس ليست معنية بكل هذا الصراع.. وهي اليوم قادرة على أن تتلقى دفقا خرافيا من المعلومات، كثير منها مضلل ومزيف وغير حقيقي، لكننا لسنا على أولوية راحات اليد لديهم، نحن انزلقنا "سقوطا" من راحات أيديهم إلى طموحاتنا السياسية وغالبية تلك الطموحات وهم، والتنافس شديد والإناء ضيق.
واللوم ليس على الصحفيين في كل ما حدث وتم إحداثه من حال راهن، فالدولة "الشق الرسمي منها" بسلطاتها ساهمت في خلق تلك الحالة من خلال تضييق الفرص وتقديم المكاسب، لتنتهي حالة الصحافة التي يفترض أن تناكف السلطة في سياق عام هو مصلحة الدولة بكل مكوناتها، إلى أن تكون السلطة (ونخبها) هي الدولة نفسها.
المثقفون– لا أعرف إن كان يمكن استخدام مثقف كتصنيف مهني- أيضا ابتعدوا عن الناس التي تحب الأدب والشعر والثقافة، المثقفون اليوم يحاولون – مثل الصحفيين- إعادة تقديم أوراق اعتمادهم كنخب مخملية تسافر وتشارك في مناسبات ثقافية بالغة "التكييف" في القاعات، وتحصر وجودها في جيوب "مخملية" في العاصمة لكنها تتكبر على ملتقيات ثقافية حقيقية وبسيطة البنية في المحافظات. تلك ثقافة المتغطرس.
صارت الصور فائقة الجودة التي تثبت حضورنا في الجاهات والمناسبات الاجتماعية أكثر أهمية وحيوية وضرورة من حضورنا المهني أو الثقافي الفاعل، حضورنا بين الناس أو معهم بلا صور ملونة وبذلات أنيقة يكاد يكون معدوما، لأننا تغطرسنا وتعجرفنا وسقف طموحاتنا أن نصبح "نخبة".
لذا.. وبكل بساطة، حين نكتب بالكاد يصدقنا الناس.
وقل أعوذ برب الناس.