1967.. نكسة، أم تأبيد للنكبة..؟!
علاء الدين أبو زينة
سمّوها “نكسة”، بمعنى “معاودة المرض بعد البُرء”. وتصور توفيق زياد، استجلابًا لأمل بأنها “كبوةٌ هذي، وكم يحدُث أن يكبو الهُمامْ/ إنها للخلف كانت خطوة، من أجلِ عشرٍ للأمامْ”. لكنّ ما حدَث هو أن هزيمة 1967 كانت الختْم النهائي على نكبة 1948 وغرس خنجرٍ قاتل في قلب القضية الفلسطينية وظهر الشعب الفلسطيني.
جسّدت كارثة 1967، عمليًا، فكرة الشيء الذي يَجبُّ ما قبله. قبلها، كانت القضية فلسطين التاريخية، التي تم استعمار أكثر من ثلاثة أرباعها وطرد أصحابها منها بالإرهاب والقوة الغاشمة (وربما، على الأقل، تأمل “قرار التقسيم” الذي منح الفلسطينيين 47 في المائة من وطنهم التاريخي). أما بعدها، فأصبح الأمر يتعلق، بقدرة قادر باستعادة “الأراضي التي احتلت في العام 1967”، بخجل ومن موقع التسُّول الذليل.
سمّوا هذا “حل الدولتين”. وتم تسويقه على كل نطاق باعتباره “الحل النهائي والعادل” لقضية الفلسطينيين، الذي يجلب الأمن والاستقرار والازدهار للمنطقة. وكان يمكن أن يُسمّوه “الحل الممكن” إذا أرادوا جبر خاطر الفلسطينيين، على اعتبار أن موازين القوى لا تسمح حاليًا بأكثر من ذلك. لكنه في الحقيقة أبعد ما يكون عن العدالة. ويمكن فقط تصوّر مشاعر أصحاب أكثر من ثلاثة أرباع فلسطين التاريخية الذين يُفرض عليهم “حل” هو إلغاء علاقتهم بوطنهم مرة وإلى الأبد.
“النكبة”، وفق كل تعريف، هي الأحداث التي وقعت في العام 1948، وأدت إلى النزوح تحت سياط الرعب والتهجير القسري لقرابة 800 ألف من أصل 1.4 مليون فلسطيني من مدنهم وقراهم، وفق معطيات الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني. وعنى ذلك فقدانهم ممتلكاتهم وسبل عيشهم وأمنهم وتشتيت مجتمعهم، وقيام كيان استعماري استيطاني إحلالي محلهم على أراضيهم المغتصبة بالقوة.
الآن، تضاعف عدد الفلسطينيين نحو عشر مرات، وما تزال النكبة ترافق أجيالهم. ما يزال الكيان الاستعماري الصهيوني قائمًا على حسابهم وفي أرضهم. وما يزال ملايينهم منفيين. وما يزالون شعبًا كاملاً بلا دولة. وما يزالون يواجهون الإبادة، والتهجير، والإذلال، والقتل، والأسر والتمييز العنصري. وما يزالون حتى آخر طفل يصارعون الأقدار التي غيرتها النكبة بطريقة لا رجعة فيها.
إذا كانت هذه هي النكبة، وهذه تجسُّداتها الحية. وإذا كانت الأمم المتحدة نفسها تحيي ذكراها بهذا التعريف، فالمنطقي أن يكون الشيء الوحيد الذي “يلغيها” – ولو أن شيئًا لن يلغيها- هو إزالة أسبابها وتصحيح نتائجها. إذا كنتُ فلسطينيًا طُرد أبي أو جدي من أي مدينة أو قرية في فلسطين التاريخية بالإرهاب، في 48 مثلما هو 67، فإن الاعتراف للغاصب بمشروعية الاستيلاء على حقي في وطني هو نكبتي الحقيقية. وهو الشعور الطبيعي لكل فلسطيني من أي مكان في فلسطين، بقدر ما هو حُكم أي تقدير منصف، باعتماد أدلة التاريخ، والوثائق، وشهادة الأحياء، وأي فهم سويّ للعدالة. وسيكون أي اقتراح يسلبني حقي في استعادة بلدي وأملاك أسلافي حُكمًا غاشمًا بتأبيد نكبة ذريتي إلى يوم الدين، وحُكمًا جائرًا على مطالباتي بالسفَه. وتأييد هذا الحكم التعسفي مشاركة أصلية في نكبة 1948 نفسها- بتطبيع نتائجها والمصادقة على ديمومتها.
هكذا سجل المشروع الاستعماري الصهيوني انتصاره الحقيقي، في 1967 وليس في 1948. لقد أنسى استيلاؤه الجديد الناس جريمته الأصلية، وجعل اغتصابه لفلسطين 1948 شأنًا مفروغاً منه– ساعده في ذلك خطاب الغرب، والأمم المتحدة، ثم العرب الرسميون، ثم “فلسطينيون” تنكروا لحق شعبهم وبرروا لأنفسهم التفريط بحق السواد الأعظم من أشقائهم من أبناء فلسطين التاريخية.
بإقفال القضية على أساس أن فلسطين هي فقط أراضي 1967، سيكون الذين لن يشهدوا استقرارًا ولا سلامًا ولا صلة بالطبيعية، هم الفلسطينيون أنفسهم، أصحاب القضية والحق. وهكذا تُجعل نتائج “نكسة” 1967 “نكبة” لا إزالة لأسبابها ولا نتائجها. في العادة، تذهب نكبة الشعوب باستقلالها وخروج مستعمريها– إلا الفلسطينيين المحكوم عليهم، علنًا وبلا رفة رمش، بالحرمان من حق الاستقلال في وطنهم التاريخي كباقي الأمم! وإذا طالبوا بالاستقلال وزوال الاستعمار، يصبحوا متطرفين.
الخبر الجيد هو أن الفلسطينيين، كشعب حي، لا يشترون كل هذا- يشهد على ذلك تمسكهم العنيد بهويتهم، مهما كانت مواقعهم ومواقع بلداتهم وقراهم في فلسطين. وهم يعتنقون حقهم في الحرية والاستقلال والوطن كمسألة إيمان ووجود. وبالنسبة لفلسطينيي الـ48، فلسطين هي منازلهم في قراهم وبلداتهم، وعدم العودة إليها حُرة هي نكبتهم التي لَن يقبلوا بأي “حل” يؤبدها. الصراع مفتوح، والاستقلال الوطني الفلسطيني المستحق مسألة وقت، فحسب.