الأردن الجديد ... "أين الخيال الوطني"؟
محمد أبو رمان
قدّم الصديق، المفكّر الأردني إبراهيم غرايبة، في كتابه المميّز "الأردن الممكن: ما نحب أن نكون وما يجب أن نفعله لنكون ما نحب" (2021)، قدّم الصديق العزيز، رؤية تنموية حضارية مميزة للأردن، من خلال مناقشة الرواية المنشئة للدولة، والمسار الذي أخذته خطط التحديث، ثم ما المطلوب لكي نكون دولة جديدة، حديثة، حاضنة لطاقات أبنائها ومستقبلهم.
المفارقة أنّ الكتاب، للأسف، كما حال أغلب الكتب الجادّة، لم يحظ بدراسة وحوار معمّق وطني حقيقي (سوى برنامج يتيم على إذاعة حسنى، وحوارية شبابية عقدها معهد السياسة والمجتمع في ذكرى مئوية الدولة)، لا من النخبة السياسية، ولا حتى من المعارضة، أو حتى الأحزاب السياسية والمجتمع المدني، ومرّ الكتاب من دون أن يكون هنالك تفكير جدّي؛ ماذا نريد في المرحلة المقبلة؟ وما الذي حدث صواباً أو الذي حدث خطأً، وهكذا نُحرَم في سجالاتنا ونقاشاتنا القدرةَ على تجاوز العقلية اليومية في إدارة شؤون الحياة، لنتحلّى بقدرٍ من الخيال المطلوب لتجاوز الواقع والتخطيط للمستقبل!
الشيء بالشيء يُذكر، يرى أستاذ العلوم السياسية، الألماني أندريه بانك، أنّ الأردنيين مبدعون في المدى القصير Short-termism، وهي عبارة دقيقة تصف السياسات الأردنية عموماً، ونصفها، نحن الأردنيين، بسياسات إطفاء الأزمات، أو عقلية "عمّال المياومة". ففي تاريخنا، وبسبب حالة الطوارئ التاريخية (على حد تعبير الأكاديمي باسم الطويسي)، تعامل الأردنيون مع الأحداث والأزمات، من دون النظر إلى ما وراءها، أو من دون وجود مخطّطات مدروسة للتنمية والمدن والصناعة والهوية الاقتصادية، أو حتى في كيفية تطوير النظام السياسي، ليكون قادراً على تجديد الأدوات والخطط والسياسات لتواكب التطورات الثقافية والاجتماعية والاقتصادية.
حتى الحكومات، اتسمت بطابع قصير المدى (إلى أن قرّر الملك عبد الله الثاني قبل أعوام تكريس قاعدة 4×4: أي أربعة أعوام للحكومات مقترنة بعمل مجلس النواب). مع ذلك، بقيت أعمار الوزارات قصيرة، وتشكيل الحكومات لا يخضع لمعايير واضحة، ونمت وتطوّرت فجوة الثقة بين الحكومات والمؤسّسات السياسية والشارع، حتى أصبحت الفجوة ظاهرة سياسية بنيوية مع الواقع الموجود.
قبل أعوام قليلة، تفطّن "مطبخ القرار" إلى أهمية وجود تصوّرات وطنية بعيدة المدى، فأُقرَّت ثلاث خطط رئيسية: التحديث السياسي، الإصلاح الاقتصادي، إصلاح القطاع العام، وهي خطط شارك في وضعها مئات الأردنيين، لكنّها تواجِه تحدّيات حقيقية. فسياسياً، وإن كانت خطّة التحديث تجري أفضل من غيرها شكلياً، هنالك تحدّيات وعقبات تتمثّل بوجود مسار استراتيحي واضح، وتوافق بين مؤسّسات الدولة والقوى السياسية المتعدّدة على قواعد اللعبة. واقتصادياً لم تنعكس الخطة بصورة مدروسة على البرامج الحكومية، ولم تناقش بصورةٍ موضوعيةٍ دقيقة، وتخضع لاختبار الصلاحية والمصداقية والواقعية. أما الإصلاح الإداري، فلا توجد مؤشّرات دقيقة على المسارات المطلوبة والخطط المرحلية، ما يجعل من هذه الخطط في مأزقٍ حقيقيٍّ في منظور الشارع، وفي مدى وجود قاعدة اجتماعية صلبة توافقية عريضة تدعمها.
مناسبة هذا القول ما تحقّق مع حفل زفاف ولي العهد، الحسين بن عبد الله، أخيراً، من إيجابيات مهمة في تغيير المزاج الاجتماعي ــ الشعبي نحو الدولة والنظام، وحالة الفرح والالتفاف الوطني، وما أظهرته مؤسّسات الدولة من عمل متقن انعكس على صورة الأردن في عيوم أبنائه أولاً، والخارج ثانياً، ما يعني أنّنا إذا خطّطنا فعلاً بصورة دقيقة، فإننا قادرون على تحقيق الكثير، وأنّ الصورة ليست سوداوية بالطريقة التي ظهرت من خلالها خلال العقود الأخيرة، وأنّ هنالك مساحة واسعة للعمل المنظّم الدقيق الاستراتيجي، لإيجاد حالة وطنية توافقية واستعادة علاقة المواطنين بالدولة.
في علم السياسة، لا يمكن استبعاد الرأي العام، أو ما يطلق عليه المفكّر الاقتصادي الكبير، أدم سميث، "نظرية المشاعر الأخلاقية"، وربما من أفضل من كتب في هذا المجال فرانسيس فوكوياما في كتابه "الثقة: الفضائل الاجتماعية ودورها في خلق الرخاء الاقتصادي"، وهي كتبٌ تتجاوز السطح السياسي للنظر إلى جوهر علاقة المواطنين بالدولة، وكيف أن الثقة المجتمعية وقيم العدالة والحرية والتعاون هي الأساس المتين لبناء السياسات الوطنية، وهو ما نحتاج إليه، أردنياً، لتعزيزه: من نحن؟ وما هي قيمنا المجتمعية والأخلاقية والسياسية وماذا نريد؟ كي نكون قادرين على النظر إلى المستقبل بصورة صحيحة تأملية.