“البيت” والغول!
حادثتان كونيتان خلخلتا فكرة “البيت” في العقل الإنساني، في السنوات الأخيرة.
في الأولى جاءت ويلات “كورونا” لتلزم الإنسان ببيته، وتحشره بين الجدران، حتى غدا يتشهّى المشي في الشارع، ومغادرة العتبة، وكان منظر الشوارع المقفرة، والموحشة، غريباً، وغير مألوف للعين البشرية، لكن الإنسان الذي ينصاع و”يتكيّف” صاغراً مع أوامر الطبيعة، سرعان ما اعتاد ذلك، وصار همّه فقط هو تجهيز البيت بما يلزم لمكوث طويل. وهذه فكرة رغم أنها صادمة لكنها متوقعة أحياناً، ولا أتذكر من كتب مرة أن السجين غالباً ما يعتاد سجنه ويصير كل همّه “تزويقه”.
لكن الشارع ظل شوقاً لا يبرح عقل الإنسان المحبوس بأوامر “منظمة الصحة العالمية”، فصار يرسل عينيه الدامعتين من النافذة وهو يردّد بشجن مقولة الشاعر العربي “الطريق الى البيت أجمل من البيت”.
ولم تلبث الغمّة أن انزاحت، أو ضاق العالم بها، وبطعم الأدوية، فانفتحت الأبواب، وانطلق الناس إلى شوارعهم، مكمّمي الأنوف والأفواه، يتحسسون طرقاتهم بقلق، ولكن باندفاع وشوق “المُحرَّرين”.
ولم يطل الأمر، حتى كانت الطبيعة تصدر أوامر مناقضة هذه المرّة، حين ألقت الأرض بالبيوت عن أكتافها، وطالبت الناس بأن يلزموا الشوارع والساحات، فالبيوت، أو ما تبقى منها بعد الزلزال، لم تعد آمنة!
ارتبك الناس، ولم يعد معروفاً: هل البيت صديقٌ كما كان “يألفه الفتى”، أم هو غولٌ قد ينقضُّ على أطفاله في أي ساعة من ساعات الليل؟
لم تعد غرفة الأم، أو غرفة المعيشة آمنة، وجاء رجل في الأخبار يقول: حتى بعد شهر على الزلزال أنا ما زلت مصدوماً، ولن أعود بأطفالي للبيت، الخيمة أكثر أماناً، سنظلُّ في الخيمة!
والبيت الذي كان ملاذاً، واحتمى به الناس من الوباء، صار هو الخطر الذي يمدُّ أصابعه متوعّداً، وهو الحوت الذي يبتلع الأبناء، وهو مشروع قبر جماعي وجاهز.
حتى الأبناء الذين كانوا يتزاحمون ويتسابقون على النوم بحدّ الجدار صاروا يفزعون منه، أو يضعون بينهم وبينه وسادة أو لحافاً، كأنما يدفعون يده عنهم!
كانت الطبيعة قاسية، وساخرة، حين أخضعت الناس لتجربتين متناقضتين في هذا الوقت القصير، وجعلتهم يقفون مرتبكين وحائرين أمام “البيت” أو على عتباته المُهَدَّمة: هل ندخل أم ننام الليلة في الخارج؟!