تدخل “سافر” في الشركات
مقابلة تلفزيونيّة قبل أيام على إحدى الفضائيّات بين نائبين يتحدّثان بنفس اللغة والموضوع، وهو المطالبة بتأجيل أقساط البنوك، وللأمانة نقطة الخلاف الوحيدة بين النائبين كانت في مدّة التأجيل، فأحدهما يطالب بثلاثة أشهر، والآخر لشهر واحد، مع حزمهما القاطع والمشترك بأنّ التأجيل بغضّ النظر عن مدّته فإنّه شامل إلغاء الفوائد بشكل كلّيّ.
حديث النائبين وغيرهما الكثير بهذا الشكل والأريحيّة في تناول موضوع البنوك وأدائها ومحاولة تشويه صورتها بأنّها “بعبع” اقتصاديّ يهيمن على الاقتصاد الوطنيّ، ولا تقوم بواجباتها ومسؤوليّاتها تجاه المجتمع وتقف إلى جانب المواطن، فهذا شكل جديد من أشكال الشعبويّات الّتي اعتاد المجتمع على سماعها بين الحين والآخر، والأمر بات مكشوفاً للجميع، فهو مجرّد استهلاك إعلاميّ.
خطورة المشهد لا تكمن في المطالبة بتأجيل الأقساط أو حتّى تشويه صورة الجهاز المصرفيّ، بل يكمن الخطر الحقيقيّ في تنامي التوجّه العامّ من قبل مسؤولين وغيرهم ممّن يجلسون على مقاعد السلطة بمستوياتها المختلفة، في التطاول على القطاع الخاصّ، والتعرّض للشركات المساهمة العامّة واستباحة أمرها وكأنّها تابعة أو مملوكة للحكومة أو لجهات رسميّة، يسمح لهم بانتقادها والتدخّل في شؤونها باعتبارها شأناً عامّاً، متناسين أنّ تلك الشركات هي ملك؛ خاصّ لحملة أسهمها ومستثمريها الّذين أسّسوها ودفعوا أموالهم لبناء واستثمار هذه الشركات.
قبل أسابيع شاهد الجميع ما حصل في أحد اجتماعات اللجان النيابيّة عندما قام أحد النوّاب بالإساءة لمدير عامّ إحدى شركات التأمين الّذي وافق من باب احترامه للمؤسّسة التشريعيّة وهي مجلس النوّاب، لحضور اجتماع لشرح قضيّة معيّنة، لتتحوّل تلك الجلسة لحلبة شتائم أمام كاميرات الفضائيّات، في تطاول وتجاوز واضح لدور النائب الّذي بتصرّفه استباح الشركات الخاصّة، معتقداً أنّه هو وغيره يحقّ لهم التدخّل في كلّ ما يرونه مناسباً.
الأمر لم يقتصر على الشركات الماليّة بل سبقه تدخّل شبه رسميّ بأشكال مختلفة في شركات التطوير العقاريّ والسياحة وغيرها من الشركات في مختلف القطاعات تحت مسمّيات عدّة أبرزها حماية حقوق صغار المساهمين، والفساد وغيرها من التهم الشعبويّة الجاهزة الّتي أساءت لبيئة الاستثمار في المملكة خلال السنوات الماضية.
حتّى الإعلام من خلال بعض قنواته ووسائله “غير المهنيّة” الّتي تدخّلت في شؤون الشركات وعرض بياناتها بغرض “الابتزاز العلنيّ” دون مساءلة من الجهات المعنيّة، الأمر الّذي تسبّب في تشويه صورة الشركات والإساءة لمستثمريها، وتقديم معلومات “مضلّلة” لحملة أسهمها، ناهيك عن تناولهم هم وبعض النوّاب ومضاربو الأسهم الأمور الماليّة في الشركات ورواتب العاملين فيها باعتبارها شكلاً من أشكال الفساد وغيرها من التهم الشعبويّة الصالحة للاستهلاك الإعلاميّ المزيّف.
شركات المساهمة العامّة وغيرها من الشركات الخاصّة في مختلف القطاعات، هي شركات مملوكة كلّيّاً لأردنيّين ومستثمرين عرب وأجانب، ولا يحقّ لأيّ جهة كانت التطاول على تلك الشركات وبالتدخّل في شؤونهم، فهذا تعرّض وانتهاك مباشر لحقوق المساهمين والملكيّات الخاصّة، وهناك في الدولة الأردنيّة مجموعة من التشريعات والأنظمة الناظمة لعمل تلك الشركات، كقانون الشركات وهيئة الأوراق والتأمين والبنوك والعقار والعقوبات وغيرهم، وهناك أيضاً مؤسّسات قائمة بحدّ ذاتها لتعزيز عمليّات الرقابة على تلك الشركات ومحاسبة كلّ من تسوّل له نفسه العبث فيها، وهذه الشركات ليس للحكومة أي ملكيّة فيها، وإذا ما أراد النائب أو الإعلاميّ الحديث عنها فيكون بالحديث عن تلك التشريعات والأنظمة والمؤسّسات الرقابيّة لا التدخّل المباشر في شؤونهم، فشركات القطاع الخاصّ لها هيئات عامّة هي من تحدّد من يديرها وتمنحهم صلاحيّاتها وفق القوانين الناظمة لإدارة شؤون تلك الشركات وتحدّد امتيازاتهم ورواتبهم في أنظمة معتمدة من الحكومة نفسها.
الأردنّ دولة تحترم الملكيّات الخاصّة وتحمي حقوق المستثمرين، ولا تعبث بأموالهم أو تؤثّر على قراراتهم، والقوانين تكفل ذلك، وللجميع عبرة ودرس في مشروع أبراج السادس الّذي توقّف عن البناء منذ عام 2011، فالحكومة حاولت أن توفّق بين أطراف النزاع وهم قطاع خاصّ بحت، ولم تتدخّل باتّخاذ قرار سياديّ لحلّ الإشكاليّة الاستثماريّة رغم قدرتها على ذلك بحكم سلطتها، واكتفت بتنسيق المواقف إلى حين نجاحها بالتوصّل لحلّ يرضي كافّة الأطراف، فهذه التدخّلات في حال استمرارها ستساهم بنقل مشاكل القطاع العامّ من ترهّل ومحسوبيّات وفشل إداريّ إلى القطاع الخاصّ، وحينها ستكون هناك أزمة حقيقيّة في الاقتصاد، فارحموا القطاع الخاصّ من هذه التدخّلات “السافرة”.