2023 عام صعب وحاسم للأردن والأردنيين
أُسدِل الستار على العام الماضي 2022، أردنياً، باحتجاجات شديدة وواسعة في عدة محافظات، تخلّلتها أعمال شغب، وأخرى إرهابية على هامش الأحداث (من خلال عناصر راديكالية مرتبطة بالجهادية الأردنية)، على وقع ارتفاع أسعار المشتقات النفطية وتجذّر الأزمة الاقتصادية والضغوط المالية على الشريحة العريضة من المواطنين.
وبالتوازي مع ذلك، إقليمياً، عاد نتيناهو إلى قيادة حكومة تعدّ الأكثر تطرّفاً في تاريخ إسرائيل، وهي التجلّي الأبرز لعملية الانزياح السياسي والديني نحو المجتمع الإسرائيلي عموماً نحو اليمين، وهو الأمر الذي دفع الملك عبد الله الثاني إلى توجيه رسائل تحذيريةٍ مسبقةٍ إلى العالم الغربي، لما يمكن أن ينجم عن سياسات تلك الحكومة.
إذا كانت هذه الإشارات والمؤشّرات السلبية هي التي ودّع بها الأردنيون العام الماضي، فهل يُتوقع أن يكون العام الذي عبرنا إليه أفضل من العام الحالي أم أسوأ وأصعب أم شبيهاً به؟ داخلياً، ليس من المتوقع أن يكون العام الجديد اقتصادياً أفضل، بالرغم من مُخرجات لجنة تحديث المنظومة الاقتصادية. وعلى الأغلب، ستجد الحكومة صعوبةً شديدةً في تطبيق الخطة التنفيذية التي وضعتها للخطة الاقتصادية، أو في الالتزام بها. وقد لاحظ الاقتصاديون أنّ الموازنة بُنيت على توقعات نموٍّ لا تتجاوز 2,7%، بينما دفعت خطّة التحديث نحو معدل نمو 5% في العام الحالي، الأمر الذي لم تجده الحكومة، ولا نسبة كبيرة من الاقتصاديين، واقعياً ومنطقياً.
ثمّة أوراق متعدّدة في جيب الحكومة اقتصادياً، بخاصة المشروعات الكبرى، كالعاصمة الجديدة وخط سكة الحديد بين العقبة ومعان ومشروعات أخرى، لكن ذلك يعتمد على القدرة على تأمين النفقات المطلوبة، ووضع الخطط وانعكاس ذلك على الإنتاج والتصدير والاستثمار. وفي الأثناء، لا يتوقع الاقتصاديون حلولاً جذرية لارتفاع معدّلات البطالة المرهقة للمجتمع، التي وصلت إلى مستوياتٍ قياسية، لدى جيل الشباب، وأصبحت مصدر التهديد الرئيس داخلياً، لما لها من تداعياتٍ اقتصادية وسياسية واجتماعية وثقافية.
من المفترض أن يستمر الأردن على خطة صندوق النقد الدولي، ما يعني مزيداً من تخليص الموازنة من الدعم وارتفاع الأسعار، ما قد يؤدّي إلى موجات احتجاجٍ خطيرة جديدة، في ظل أزمة سياسية مركّبة على الأزمة الاقتصادية، وتتمثل في تراجع كبير في مصداقية الحكومات والثقة بين الشارع ومؤسّسات الدولة وارتفاع السقوف في هتافات الشارع، ما قد يؤدّي إلى انفلات أمني في مناطق متعدّدة أو تنامي ظاهرة العصيان المدني. وللتذكير، كان ذلك ناجحاً للغاية في محافظتي معان والكرك، وهي ظاهرة لم يعاينْها الأردن منذ 52 عاماً (عندما دعت منظمة التحرير الفلسطينية ولجنة المتابعة الوطنية حينها إلى إضراب عام في 30 يوليو/ تموز 1970 احتجاجاً على مشروع وزير الخارجية الأميركي في حينه، وليم روجرز).
يقودنا ذلك إلى الضلع الثاني من مشروعات مثلث التحديث (السياسي والاقتصادي والإداري) بمناسبة مئوية الدولة، والمقصود خطّة التحديث السياسي، وتطوير الحياة الحزبية وتعزيزها، وصولاً إلى بناء بيئة تنافسية للانتخابات التشريعية في 2024. ومن الواضح أنّه بالرغم من الجهود المبذولة والخطوات التشريعية والسياساتية العديدة، فإنّ الشكوك لدى النخب والرأي العام كبيرة. ولعلّ أبرز ما أفرزته الاحتجاجات أخيراً هو ما أطلق عليه صاحب هذه السطور، في مقالة سابقة في "العربي الجديد" بعنوان "هل انتهت الأزمة الأردنية؟"، اختفاء البنى السياسية وتبخّر النخبة السياسية وتكريس العشيرة قاعدة صلبة في تأطير العلاقة بين الفرد والمجتمع والدولة، وهو ما يناقض تماماً أهداف مشروع التحديث السياسي، ويعزّز القناعة بأنّ هناك اختلالات في إدارة الدولة مسار التحديث وسياساته.
إذا استمر الحال كذلك، فإنّ مشروع التحديث السياسي في الأردن مهدّد بالفشل الكبير أو انتكاسة خطيرة، ما ينعكس أيضاً على تعميق الأزمة السياسية في البلاد، ويزكّي موقف اتجاه كبير يصف السياسات الأردنية اليوم بـ"التائهة"، تعاني من اختلالاتٍ وفجواتٍ وعدم توافق واتفاق داخل مراكز القرار نفسها، فما يجري الإعلان عنه يمكن أن يُنقَض ليس من المعارضة بل من المؤسسات الرسمية نفسها!
على الصعيد الخارجي، لا يبدو أنّ الإسرائيليين يكترثون كثيراً برسائل الملك وتحذيراته، وكان ذلك واضحاً من ردود الفعل القاسية في بعض وسائل الإعلام والمدوّنات لسياسيين إسرائيليين على مقابلته مع "سي أن أن" قبل أيام. وبالضرورة، مردّ الموقف الإسرائيلي غير المبالي تجاه الأردن إلى التغييرات العميقة في البيئة الإقليمية وحالة التهافت العربي على التطبيع مع إسرائيل، في مقابل الانهيار الاستراتيجي العربي المحيط بإسرائيل، ما يجعل القلق الإسرائيلي الحقيقي هو من إيران خارجياً (وليس العالم العربي)، ومن القنبلة الديموغرافية الفلسطينية في الداخل.
أصبح تراجع قيمة الأردن الاستراتيجية في الأمن القومي الإسرائيلي سؤالاً مهماً مطروحاً لدى النخب السياسية في عمّان بالتوازي مع صعود اليمين المتطرّف هناك الذي يرى الأردن دولة بديلة، ويسعى إلى تهويد القدس بالسرعة القصوى. ومع تدهور أوضاع السلطة الفلسطينية واشتداد الصراع على خلافة الرئيس محمود عباس، والتساؤلات المرتبطة بصحّته وقدرته على الاستمرار العام الحالي، أو في حال اختفى عن المشهد، كيف ستكون الأوضاع في فلسطين وحالة السلطة الضعيفة أصلاً!
على الحدود الشمالية، هنالك قلق شديد من الشتاء مع تشكّل مافيات مخدّرات وتنشيط هذه التجارة عبر الحدود الأردنية - السورية، وارتباط ذلك بمصالح سورية – إيرانية - لبنانية (حزب الله)، مع تراجع دور الروس في المعادلة الحدودية الأردنية - السورية. أما العراق، فبالرغم من عقد مؤتمر بغداد الدولي في الأردن، الشهر الماضي (ديسمبر/ كانون الأول)، ومحاولة تطبيع الأجواء مع الحكومة العراقية الجديدة (بقيادة محمد شيّاع السوداني)، إلّا أنّ الرهان الأردني على رئيس الحكومة السابقة، مصطفى الكاظمي، فشل، وأصبح التعامل اليوم مع حكومةٍ جديدةٍ أقرب إلى طهران، ولا يمكن المرور في تطوير العلاقات مع العراق اقتصادياً وتجارياً من دون التطبيع مع إيران.
الأردن اليوم مدعوٌّ إلى العودة للمقاربة التقليدية، أيضاً، التي ترى في العراق "عمقاً استراتيجياً" للأردن
بناءً على كل ما سبق، من الضروري تحديد أولويات مطبخ القرار بصورة واضحة واستراتيجية، وترسيم أبرز التحديات الداخلية والخارجية، ووضع سيناريوهاتٍ للتعامل معها. وغني عن القول إنّنا نتحدث عن عام صعب جداً داخلياً وخارجياً، يتطلب ما يطلق عليه تغييرٌ كبيرٌ في المقاربات الرسمية (Paradigm Shifting)، وإذا كنا ندعو إلى ذلك منذ أعوام، فإنّه اليوم أصبح أكثر إلحاحاً وأهمية.
والمقاربة البديلة تردّ الاعتبار للسياسة الخارجية وأهميتها بدرجة موازية للداخلية، لأنّ مصادر التهديد اليوم أصبحت خارجياً كبيرة، وترتطم بالأمن القومي الأردني، كما أنّ ذلك يعيدنا إلى الاستراتيجية الأردنية التقليدية (دبلوماسية الموازنة) بربط المصالح الاقتصادية جوهرياً بالسياسة الخارجية، بخاصة مع كلّ من العراق وسورية، ما يعني، بالضرورة، تطبيع العلاقات مع إيران وتدشين حوار استراتيجي يقود إلى نتائج واضحة في تعريف المصالح الحيوية الأردنية.
الأردن اليوم مدعوٌّ إلى العودة للمقاربة التقليدية، أيضاً، التي ترى في العراق "عمقاً استراتيجياً" للأردن، ما يستدعي فتح الأبواب بصورة أفضل لتحسين العلاقات مع العراق، وتطوير المصالح التجارية، ما سيؤدّي إلى تحسين جوهري في الأوضاع الاقتصادية لشريحة واسعة من المواطنين، ما يتطلّب حكومة تجمع بين الأبعاد السياسية والاقتصادية، وتركّز على السياسة الخارجية في المرحلة المقبلة، وهو أبعد ما يكون عن نمط حكومات التكنوقراط المحضة، فالمطلوب حكومة تمزج بين السياساتية والتكنوقراطية، لازدواجية المشكلات الخارجية والداخلية.
وعلى صعيد القضية الفلسطينية والعلاقة مع إسرائيل، المطلوب تغييرات جوهرية في المقاربة الأردنية، والعودة إلى السياسات التقليدية في أكثر من زاويةٍ، منها تعزيز العلاقة مع القوى الفلسطينية المختلفة، بما في ذلك حركة حماس، والإمساك بأكثر من ورقةٍ سياسيةٍ هناك.
لقد اعتمد الأردن في العقدين الأخيرين على سياسة النأي بالنفس في الموضوع الفلسطيني، بل تسليم الملف إلى المصريين سياسياً، بخاصة ما يتعلق بترسيم الأدوار داخل القوى الفلسطينية، وهذا خطأ استراتيجي كبير، لأنّ الملفّ الفلسطيني أردني بامتياز، بخاصة ما يتعلق بالقدس واللاجئين والضفة الغربية. من هنا، على الأردن أن يأخذ دوراً كبيراً، بل حاسماً في تحديد خلافة الرئيس محمود عباس، وفي تطوير الوضع السياسي الفلسطيني، وفي بناء جسور كبيرة من العلاقات المحترمة مع القوى والشخصيات الفلسطينية في المرحلة المقبلة، وإلا سنكون الخاسر الأكبر في هذا المجال على مختلف الجبهات.
من الضروري الربط بين السياسات الداخلية والخارجية، وأن يكون هنالك تحشيدٌ للشارع خلف المصالح الوطنية الأردنية، وأن يكون هنالك تطوير وتحسين للمناخ الديمقراطي والحريات العامة وحقوق الإنسان في البلاد، وردم الفجوة المتنامية مع الشارع، كما حدث في منعطف 1989، وهذا يتطلب تمتين الفريق السياسي في الدولة، حول الملك وفي الحكومة وفي المواقع السياسية الأخرى، وإنهاء حقبة الحكومات الضعيفة والنخبة الغائبة التي تختفي وتتبخّر في الأزمات والمنعرجات الخطيرة، وهي نتيجة تتحمّل مسؤولياتها السياسات الرسمية التي قامت بعملية تجريفٍ كبيرةٍ في أوساط النخبة السياسية، وعزّزت الأزمة الداخلية، وأوجدت حالة من الفراغ السياسي الداخلي الخطير.
المطلوب في المرحلة المقبلة سياسات جديدة ومقاربات مختلفة تكون على قدر التحدّي غير المسبوق للأردن والأردنيين، داخلياً وخارجياً. ويستدعي ذلك، بكلمات قليلة محدودة، جبهة داخلية متماسكة وقوية، لأنّ الوضع الراهن، كما أخبرني رئيس وزراء أسبق محنّك سياسياً، هو أخطر مرحلة يمرّ بها الأردن منذ خمسة عقود، لأنّ الحلول، كما يرى، بدأت تنفد من يد مطبخ القرار.