محمد يمضي إلى حيث الضوء
التقيت الطبيب والصحفي الاستقصائي محمد أبو الغيط في أحد أزقة العالم الافتراضي، ولا أظن أن لقاءنا كان محض صدفة وإنما ساهمت في ترتيبه خوارزميّات العم مارك المتربصة.
لقد تورطت قبل شهور في متابعة ما يكتبه محمد على صفحته الفيسبوكيّة من يوميات يدون من خلالها معاناته من سرطان المعدة في مراحله المتأخرة.
فقد قرأت فيما كان يكتبه محمد عن مناجاة عميقة للنفس لشاب في منتصف الثلاثينيات من العمر داهمه المرض وهو في أوج ألقه ولمعان اسمه نجما في سماء الصحافة الاستقصائية لفتت اليه الأنظار، فهذا الشاب الذي اختطفته الصحافة من ردهات المستشفيات، وصعدت به سلّم الشهرة والمجد سريعا؛ محققا نجاحا تلو الآخر ليأتي السرطان ويعيده عنوة الى جنبات المستشفيات ولكن هذه المرة على الجهة الأخرى من السمّاعة.
لقد أخذنا محمد عبر مذكراته التي جمعها لاحقا في كتابه الذي صدر بعيد وفاته بأيّام قليلة ومنحه عنوانا مؤثرا «أنا قادم أيها الضوء» في رحلة شاركناه فيها آلامه وآماله، رافقناه فيها الى غرفة العمليات التي أتت على معظم أعضائه الداخلية والتي استوطنها المرض، كنّا معه والسائل الملون يتدفق الى شرايينه في قسم العلاج الكيماوي؛ نقطع الوقت الطويل معا في حساب عدد القطرات المتساقطة كل دقيقة، شهدنا جلسات مفاوضاته المتكررة مع الموت وهو يناوره طلبا لهدنة تمكنه من إنجاز مشروع لم ينته، وكنا معه في لحظات إنكاره ثم غضبه فاستسلامه.
لقد أدخلنا محمد بطيب خاطر الى بيته نعيش معه تفاصيل حياته، وعرّفنا على زوجته الرائعة والصابرة إسراء، تلك الفتاة الرقيقة المرهفة التي أنضجها مرض زوجها؛ لتكون له في غربته الأم والزوجة والممرضة ومدبرة شؤون المنزل؛ فضلا عن كونها امرأة عاملة، فكانت هدية السماء له تداوي جراح النفس وتتابع جراح الجسد.
عادة ما نتعامل مع المرض على أنه ذلك الشيء الذي يصيب الآخرين، الى أن يباغتنا ليجبرنا على اعادة ترتيب أولوياتنا، وعلى البحث عن معنى جديد لحياة نرقبها تتسرب من بين أيدينا.
لا أظن أن هناك رواية أصدق من تلك التي يرويها شخص يعلم أن أيامه أصبحت معدودة؛ حينها يكون لعب دور البطولة؛ وادعاء التميز آخر ما يشغل بال الانسان، وهذا ما يميز ما كتبه محمد ومن قبله الدكتور بول كالانيثي في رائعته «عندما يصبح النفس هواء» فقد وصف لنا كلا الكاتبين الصراع الداخلي الذي يمران به؛ وهما يواجهان الأسئلة الوجودية المؤرقة حول الصحة والمرض، والحياة والموت، والخلود والفناء، فقد وصف لنا الكاتبان النفس البشرية في لحظات ضعفها وقوتها، آمالها ويأسها، ليصلا في النهاية الى أن الخلود يمكن أن يتحقق في الأثر الذي يتركه الانسان على هذه الأرض؛ وأن حياة الانسان لا تختزل في عدد السنوات التي قضاها على هذه الأرض؛ ولا بالأرقام الحاضرة على شاهد القبر؛ وانما بمدى جودة هذه السنوات، والارث الذي نتركه من بعدنا، فاختار محمد أن يكون ارثه في الكتابة التي ستكمل سنوات حياته بينما هو يسير مطمئنا نحو الضوء؛ متحللا من قيد الجسد الذي طالما خذله وهو في أمسّ الحاجة له.
لقد أعطى مرض محمد بعدا جديدا لثنائية الوطن والغربة، فإن كانت الأخيرة قد منحته فرصة للعلاج محروما منها كثير من أقرانه، فإن الموت قد أعطى هذه الثنائية رمزية لافتة من خلال المفاضلة بين الدفن بين جنبات قبر دافئ في صحراء الوطن؛ أو في آخر بارد في تربة لندن الخصبة، لتكون الغلبة للاخيرة؛ بعد أن ضنّ عليه الوطن ولو بموطئ قبر يؤوي جسده المتعب.