منعة الاقتصادات في مواجهة التحديات
بقلم: الدكتور خالد واصف الوزني
فرضت الأزمات التي شهدها العالم أخيراً وما زال، بدءاً بجائحة كورونا، وانتهاءً بالأزمة الروسية الأوروبية، عبر أوكرانيا، سجالاً كبيراً بين الساسة، والمختصين، حول موضوع منعة الاقتصادات، وبالتالي قدرتها على التعامل مع الأزمات التي تواجهها داخلياً أو خارجياً. فالعالم اليوم يمرُّ بالعديد من الأزمات التي ستترك آثاراً نوعية على مسيرة النظام الاقتصادي العالمي، وقد ندخل العقد الثالث من القرن الحالي بنظام مالي مختلفٍ تماماً عمّا نعرفه اليوم، وخاصة في مجال التسويات المالية الدولية، وقواعد التعامل بالتجارة الخارجية.
بيد أنَّ المحدَّد الرئيس لما يجعل الدول قادرة على مواجهة نقاط ضعفها الداخلية، والتحديات التي تتلقاها من فضائها الخارجي؛ الإقليمي أو العالمي، هو منعة الاقتصاد، وما تعنيه تلك المنعة من رشاقته في التحرك والتعامل، أو التأقلم، أو في اجتراح الحلول الإبداعية، أوالمرونة في التكيُّف، أو القدرة على التواصل والاتصال داخلياً و خارجياً.
لا يمكن وسم الاقتصادات بالضعف أو بالإفلاس وهي تكتنز موارد مادية وبشرية متنوعة، وفي الوقت ذاته، لا يمكن الاعتقاد أنَّ مجرد توافر مكونات مادية، مالية أو طبيعية، سيوفِّر للدول قدرة على مواجهة التحديات المختلفة.
ذلك أنَّ محددات منعة الاقتصادات لا تقف عند إحصاءات توافر الاحتياطيات الأجنبية، أو وفرة الموارد الطبيعية النفطية أو المعدنية، أو حتى الثروات الزراعية. منعة الاقتصاد تتحدَّد، من وجهة نظري، في ثلاثة عوامل متداخلة ومتواصلة ومتكاملة؛ أولها يقوم على الحصافة والحكمة والريادة في إدارة الموارد الاقتصادية، مهما كان حجم توافرها أو ندرتها، والثانية تنبع من الرؤى الاستشرافية الخَلّاقة للقيادة، وصنّاع القرار، تلك الرؤى المبنية على طموحات قابلة للتنفيذ وفق برامج عمل محددة ومُتابعة وخاضعة للتقييم والمحاسبة والتحفيز، وما يتطلبه ذلك من حسن اختيار القيادات، وتمكين الشخص المناسب من المكان المناسب.
ومن هنا تأتي الحيثية الثالثة في العوامل وهي تنبع من قدرة القيادات التي تدير الاقتصاد ورشاقتها في تسخير كافة مقدرات الاقتصاد؛ المادية والبشرية، نحو تحقيق الرؤى الاستشرافية، بشفافية وحاكمية، وبشراكة تامة مع القطاع الخاص؛ المحلي والخارجي، وفق مصالح وطنية تحقِّق منافع كبيرة للجانبين، بمعادلة شفّافة وواضحة وبعيدة عن تضارب المصالح والمكاسب الشخصية.
الاقتصادات ذات منعة ذاتيه، ولا يمكن لها أن تُفلس، بالمفهوم الدقيق للكلمة، بيد أنَّ الفكر القائم على إدارتها قد يؤدي بها إلى عوارض الإفلاس، وقد يجعلها تعطي أعراضاً توحي بأنها تواجه، أو ستواجه، مصيراً اقتصادياً صعباً.
منعة الاقتصادات تكمن في قدرة صنّاع القرار على تحديد مواطن قوة الاقتصاد، وبواطن إمكاناته، ثمَّ تحديد أوجه الاستثمار الأمثل لتلك المواطن.
قدرة الاقتصادات على الاستثمار في العنصر البشري هي أول معطيات قدرة صنّاع القرار على حسن إدارة الاقتصاد، وذلك عبر قنوات تطوير التعليم، ونشر المعرفة، وبناء القدرات، واستغلال قواعد البيانات الكبرى والرقمنة الذكية، بما يسهم في توظيف القدرات البشرية الداخلية نحو ما يخدم استغلال الموارد الطبيعية المتاحة، أو حتى الإمكانات اللوجستية التي يوفّرها موقع الاقتصاد الجغرافي، أو حتى الجيوسياسي.
بل إنَّ قوة القيادات، وحسن إدارتها، ورشاقة أدائها، ورؤاها الاستشرافية الاستباقية، خلقت لبعض الاقتصادات منعة حقيقية وكبيرة، حتى دون أن تمتلك موارد مادية كبيرة، سواء أكانت في شكل الثروات النفطية، أو المعدينة، أو حتى الزراعية أو المواقع السياحية، أو حتى في مجال المناخ أو الطبيعة. تعتري الاقتصاد أعراض أمراض الإفلاس حينما ينقص صنّاع القرار المعرفة الحقيقية، بما يتطلبه الأمر لحسن إدارة واستثمار الموارد المتاحة والكامنة، وحينما يجهل هؤلاء حقيقة موارد الاقتصاد، وعندما يعجز البعض عن التفكير داخل أو خارج الصندوق في سبل استغلال الطاقات الكامنة في الاقتصاد، ويستسهل الحلول، واللجوء إلى البرامج الإصلاحية الجاهزة، ويعمد إلى الطرق التقليدية في إعداد وبناء الموازنات العامة، وفي النفاذ إلى الأسواق العالمية، وفي استقطاب الاستثمارات، بل وفي توسيع ما هو قائم منها.
منعة الاقتصادات بناءٌ ذاتيٌّ يكتنزه كل اقتصاد في العالم، صغُر حجمه أو كَبُر ديمغرافياً أو جغرافياً. بيد أنَّ إظهار تلك المنعة، وتحقيق أفضل الاستثمار لها يتطلَّب رؤىً، وقدراتٍ استشرافية، ورشاقة فردية ومؤسسية تجعل من تلك المنعة سبيل التواجد في عالم تتخبطه التحديات الدولية، والإقليمية، السياسية والاجتماعية والمالية.