الاخبار العاجلة
تنويعات أردنية على وتر يكاد ينقطع

تنويعات أردنية على وتر يكاد ينقطع

في مقابلة صحفية قديمة، حاورت فيها الفنان والموسيقي الأردني الراحل توفيق النمري، حدثني عن قصة إحدى الأغنيات التي أعاد تلحينها وضبط إيقاعها وصارت من التراث الأردني الذي يحاول أن ينجو في زحمة لزوميات ما لا يلزم، ومنه أخذت الحكاية إلى المفكر والكاتب الأردني الراحل " جورج حداد" والذي كان أكرمني بصداقته وفيض ذاكرته، فأكد الحكاية التي تقول كما رويت لي، أن رئيس الوزراء الأردن وصفي التل وقد كان مسؤولا عن إدارة التوجيه الوطني في الأردن قد نادى النمري وحداد إلى لقاء يطلب فيه منهما إعادة إحياء "ترويدة" موسيقية تراثية كان التل نفسه يسمعها ويحفظها من الأعراس الحورانية في مطلع شبابه، وبصوته الجهوري الخشن دندن للكاتب وللموسيقي تلك الأغنية التراثية مجهولة الهوية لكن كلماتها الأصلية كانت تعكس رؤية "فلاح" حوراني يعيش بساطته وعشقه لمحبوبته، فتغزل بها مستخدما مفردات "السياسة" في عصره، وحسب المرحوم جورج حداد فإن مصدر الأخبار الوحيد في فترة الحرب العالمية الثانية كان إذاعة برلين الناطقة بالعربية.

 

يتغزل الفلاح البسيط بمحبوبته الأكثر بساطة فيغني لها ويقول:
يا ام العرجة الغوازي والجنيديات
يخضعلك جيش النازي والولايات.
عصمت إينونو وهتلر ليكي خدام
والجيش السابع والثامن للتحيات.

 

هذا الفلاح البسيط الذي تموج الدنيا بما فيها من حوله بحرب عالمية ضخمة، لم ير في الدنيا إلا تلك الفتاة التي يحبها فتعملق بحبه وعبر عنه وجعل الحلفاء والمحور في خياله الشخصي أدوات تخدم تلك السيدة الحورانية التي بلا شك كانت جزءا من طبقة منتجة تعمل في الحقل وتحصد البيادر، لكنها في عيون عاشقها الحوراني مخلوق خلقه الله ليخدمها هتلر نفسه وعصمت اينونو التركي، ويقدم لها الأسطولين السابع والثامن من الحلفاء، التحيات العسكرية (!!).
تناول جورج حداد الكلمات وعدلها بالكامل وغناها بعد أن ضبط لحنها الموسيقي توفيق النمري لتصبح الأغنية الأردنية التي اشتهرت بالسبعينات " لوحي بطرف منديلك".

هذا تراث من شرق نهر الأردن، قبل تكون الدول بصيغتها النهائية، وهو تراث وفير من شمال الأردن إلى جنوبه، ومن شرقه إلى غربه، فيه الأنماط الفلاحية والبدوية والمدينية، وكانت هناك تجربة "لم تكتمل ولم تنتشر كما يجب" للفنان الأردني المعاصر عمر العبداللات بإعادة إحياء هذا التراث، لكن – ولأسباب تواطأ فيها الجميع- تم التركيز على حزمة أغانيه التي غنى فيها للمؤسسات الرسمية والمدن والمحافظات كواجب هدفه إنتاج أناشيد رسمية تعبيء فراغ إذاعات الموجة القصيرة.

( ابنتي بترا التي تعيش في الجزء الهولندي من بلجيكا تحفظ كما تضع على مشغلها الموسيقي الخاص أغاني العبداللات التراثية إلى جانب أغاني البوب الأمريكية لأريانا غراندي بدون ان تخضع لقواعد التسويق الأردني الساذجة رسميا).

 

في الأردن، أيضا وفي مثال "يكاد يقترب من الحصر"هناك الفنانة مكادي نحاس، ابنة مادبا التي غنت على مسارح بيروت والقاهرة وامستردام وعواصم عالمية أخرى وقد حملت تراث المشرق العربي بإعادة إنتاج نالت الاحترام إلا في الأردن "الرسمي" الذي يجاملها تحت وطأة الحضور العالمي لها.
وهناك أسماء ذوات فنية عديدة "سحقها" اليأس من الحضور المحترم، على حساب ترويج "فني" أردني محلي قائم على قواعد العلاقات المصلحية الضيقة لصنع نجوم "صدفة فضائيات ومسابقات" ربما يكون لهم جمهورهم لكن ليس لهم قواعد ثابتة لترسيخ وجودهم في الحالة الوجدانية الأردنية.

 

لماذا أورد كل ما ورد أعلاه ( وقد اختصرت كثيرا)؟
كل ما ورد أعلاه حضرني وأكثر وأنا اتابع مسلسل إشعال أعواد الثقاب الأردني على منصات التواصل الاجتماعي، وحفلة إشعال أعواد الثقاب صارت روتينا أردنيا في سياق "مهرجان حرائق عربي" أكبر، فكثيرون جدا يحملون أعواد الثقاب بخفة وجهل، لكن قلة قليلة فقط من يحملون الشمعة.

حفلة أعواد الثقاب الأخيرة كانت على خلفية مهرجان جرش بنسخته السادسة والثلاثين السنوية، وهذا يعني أجيالا في معايير المهرجانات، وفي المهرجان الذي وقفت ذات موسم على مسرحه الجنوبي السيدة فيروز، حضرت الفنانة الفلسطينية - الإسرائيلية دلال أبوآمنة وهي التي تحمل مشروعا جميلا بتوثيق التراث الموسيقي لا الفلسطيني وحسب بل والشامي بشموليته عبر مشروعها الفني والذي عنونته "يا ستي".

قلة من يعرفون ان دلال أبوآمنة عالمة طبية وباحثة في علوم الدماغ، وتعمل في معهد التخنيون الإسرائيلي العريق والشهير في حيفا على مشروع إنساني آخر يتعلق بعلاج أمراض التصلب اللويحي كعالمة محترفة، وقد حصلت على درجة الدكتوارة العلمية من التخنيون عام ٢٠١٩.

ومشروعها الفني لا يقل أهمية في توثيق تراث يكاد يندثر إلا من حفلات الأعراس المحلية، وقد وظفت فيه ابنة الناصرة الجميلة مع زوجها "الفنان والطبيب أيضا" أدوات تقنية حديثة في الإخراج البصري والسمعي بمجهود مذهل.

حين غنت على المسرح الجنوبي وقد نالت الحضور عليه بجدارة وامتياز، انتشرت صورة على وسائل التواصل الاجتماعي لرئيس وزراء الأردن الأسبق السياسي العريق طاهر المصري وهو يبكي متأثرا ومتحمسا على أغنية "موطني" الشهيرة، وهي التي كتب كلماتها الشاعر الفلسطيني الشهير إبراهيم طوقان، ولحنها اللبناني "محمد فليفل" العضو في الثنائي "الأخوين فليفل" أول من أكتشف الشابة اللبنانية الخجولة نهاد حداد التي أعاد اكتشافها لاحقا الموسيقار حليم الرومي "والد ماجدة الرومي" وسماها "فيروز".

( بالمناسبة، واستطرادا: الفنون الحقيقية لا تخضع لمقاييس الأقطار وحدودها، ومثال ذلك نشيد العلم الأردني بعنوان "يا جيشنا يا عربي" كان من ألحان السوري الحلبي الراحل شاكر بريخان، وهو ذاته الممثل المبدع الذي مثل في مسرحيات وأفلام عديدة كوميدية مع دريد لحام).

حملة أعواد الثقاب في الأردن بدأوا  حفلة الاشتعال من تلك الصورة التي لم اجد فيها إلا انسيابا إنسانيا عاديا لرجل كبير عمرا وقدرا وبالغ الأناقة كعادته، لكن حفلة اعواد الثقاب العشوائية لن تترك الأمر يمر بدون اشتعالات تراوحت بين الإقليمية والدينية وصكوك الوطنية وهو ما يصب في المحصلة عند قوى العتمة التي تحارب المهرجان – وأي مهرجان- كل موسم، باسم الله والمقدسات التي كرست نفسها وصية عليها بدون أي شرعية إلا الخطابات الإنشائية والفشل الرسمي في إعادة بناء الدولة.

 

موطني، نشيد وطني حماسي جميل وحزين، ويثير الشجن لأن كاتبه وضع فيه تساؤلات "عام ١٩٣٤!" تثير الحزن على واقع سيء ورديء لأوطان تحاول النهوض والتحول إلى دول، ومن يندمج مع النشيد له الحق الشرعي الشخصي بتخيل الوطن الذي يتخيله! تلك حالة وجدانية لا تخضع لمعايير الدستور والقانون.
( طبعا، متلازمات التفاهة الجدلية حملت فيما حملت جدلا واسعا حول طريقة إشعال شعلة المهرجان والسخرية من "قداحة" استخدمها رئيس الوزراء لذلك، وهي ذات النوعية المستخدمة في المهرجان منذ نسخته الأولى قبل ٣٥ عاما، لكنها حفلة أعواد الثقاب المعتادة).

مهرجان جرش، قد يكون متأثرا بلوثة النجومية بمعاييرها العربية الحديثة الخاضعة لحملات العلاقات العامة لكن المهرجان كان يمكن ان يقدم الكثير لفنانه المحلي تماما كما فعل خيرا وقدم الدكتورة صاحبة المشروعين "الفني والعلمي" دلال أبوآمنة على مسرحه الجنوبي الذي وقفت عليه السيدة فيروز بكل جلالها ومهابتها ذات زمن جميل.

وحتى لا يتجنى احد علينا بالترفع عن كل ما يتم تقديمه، أتعرض لضغوط من زوجتي وابنتي لحضور حفل الخميس للفنان اللبناني زياد برجي والفنان الأردني طوني قطان..وكلاهما جميل.


تنويه.. يسمح الاقتباس وإعادة النشر بشرط ذكر المصدر (صحيفة أخبار الأردن الإلكترونية).