لم نعد نحتاجكم
حسين الرواشدة
أين أنتم من الأزمات التي يمر بها البلد؟ الإجابات التي نسمعها من المسؤولين السابقين، رجالات الدولة، وغيرهم ممن تبؤوا مواقع المسؤولية، تبدو غالبا واحدة، لا أحد يستشيرنا، لقد فهمنا الرسالة: ”لم نعد بحاجتكم “، وبالتالي انكفأنا على أنفسنا، وآثرنا الصمت، وحين يطلب منا أية استشارة، لا نبخل بها، ولا نتردد، حتى لو قيل لنا : أنتم تغردون خارج السرب.
هل يبدو ذلك صحيحا؟ ربما، لكن المسألة ليست كما يقال تماما، غياب المسؤولين السابقين، أو تغييبهم، لم يكن مجرد قرار من بعض إدارات الدولة، للاستغناء عنهم، أو معاقبتهم، ثمة آخرون قرروا الانسحاب من المشهد برغبتهم، أو لإنشغالهم بأعمالهم الخاصة، طبقة ثالثة استنفدت صلاحيتها، بعد أن فقدت رصيد مصداقيتها لدى الدولة والمجتمع، فاستقالت، طبقة رابعة أمسكت العصا من الوسط، لا تريد أن تحسب على أي طرف، انتظارا لفرصة قادمة، أو موقع شاغر.
أفقيا، توزع هؤلاء السابقون، أو المتقاعدون، أن شئت، على أدوار مختلفة، بعضهم اختار المعارضة، استخدم خبرته أحيانا، ومظلوميته أحيانا أخرى، فأصاب في مواقف وأخطاء في أخرى، بعضهم اكتفى بحظه من الوظيفة، وابتلع حسرته، ولم يعد مشغولا بالهم العام، علنا على الاقل، عدد آخر تحول إلى صاحب صالون سياسي، يدور بفلكه أشخاص ومريدون، يمارسون النميمة السياسية، أوالشماتة بكل مسؤول.
أفهم، وأقدر أحيانا، كل هذه الخيارات، وألتمس الأعذار لمن طرق باب الخزان، ولم يسمعه أحد، أو للذين اعتزلوا ظنا منهم أنهم قدموا ما عليهم من واجب، لكن ما لا أفهمه هو”الاختباء” المقصود، او”الفجور” المتعمد، الذين اختبأوا خوفا من مواجهة الواقع، أو حفاظا على مصالحهم الخاصة، أو الذين تحولوا إلى شامتين أو شاتمين لكل شيء، هؤلاء تعاملوا مع البلد كموظفين عابرين، أو كأوصياء حصريين، فيما الحقيقة أن البلد بالنسبة لهم كان مجرد” بزنس”، وامتيازات وسلطة، إذا ما فقدوها أصبح كل شي بعيونهم خرابا، لا يستحق النظر.
كان يمكن، بالطبع، أن نتجاوز هذه الإشكاليات، والمناكفات، وأن نصنع من خلال بعض هؤلاء “بيوت خبرة”، سياسية، أو إعلامية، أو اقتصادية، أومساند لصانعي القرار ومتخذيه، عندها يكون للدولة “مخزون” من الوسائط والروافع التي تساعدها على إيصال رسائلها ورواياتها، لكي تقنع الناس بها، لكن ما حدث هو أن بعض المسؤولين، الذين لا يعرفون قيم الدولة، ولا حتى مصالحها، تعاملوا مع المسألة بمنطق المزاجية والإقصاء والانتقائية، فأصبح الانطباع العام أن الدولة تأكل أبناءها.
لا تقلقني، أبدا، حراكات المسؤولين السابقين، أو قفزاتهم فوق الكراسي، أو تحتها، ولا صرخاتهم وانتقاداتهم للوضع القائم، حتى وإن كانوا شركاء فيه، وإنما تقلقني حركة السياسة في بلدنا، والأخطر حركة الدولة في علاقتها مع المجتمع، الدولة يفترض أن تكون أوسع صدرا من أبنائها، وقيمها أصلب وأقدر على الصمود في مواجهة أخطائهم، الدولة تستطيع أن تهضم، أو تبتلع كل ما يصدر عن مواطنيها، وتتعامل معهم بمنطق “الأبوة”، حتى حين يحردون أو يغضبون.
بالمقابل، لدينا مخزون من الكفاءات، بكافة المجالات، لا يمكن لأحد أن يجرحهم بوطنيتهم، هؤلاء يمكن استدعاؤهم، بعيدا عن منطقة العشيرة، والشلة والمحسوبية، ولدينا رجال دولة، بالمعنى الحقيقي لا الوظيفي المألوف، يمكن الاستفادة من خبراتهم، والاستثمار بمصداقيتهم الشعبية، هؤلاء لا يجوز أن نقول لهم “لم نعد بحاجتكم”، على العكس تماما، البلد بحاجتهم، وهم- تقديري -جاهزون لخدمتها أيضا.