ماذا لو عدنا إلى مدريد؟
بقلم: مالك العثامنة
مطلع عام 2020، ألقى الملك الأردني, عبدالله الثاني, خطابا بليغا ومؤثرا أمام أعضاء البرلمان الأوروبي وفي خطابه استخدم الملك سلسلة من الرسائل التي صاغها على شكل سؤال افتراضي بدايته "ماذا لو..؟". وهي صياغة مرنة دبلوماسيا تتيح للملك أن يضع كل مخاوفه ومكامن قلقه في حزمة تنبيهات شديدة اللهجة لكل من يهمه الأمر (والحقيقة أن الكل يجب أن يهمه الأمر أكثر من أي وقت مضى).
استهل الملك تساؤلاته الافتراضية (وهي واقعية إلى حد كبير أيضا)، بالنزاع الفلسطيني- الإسرائيلي، فيصفه بأنه "أعمق جرح في منطقتنا" وتساءل: "ماذا لو تخلى العالم عن حل الدولتين لإنهاء الصراع العربي- الإسرائيلي؟".
لكني أتساءل بدوري على ذات الصيغة: ماذا لو أدرك كل المؤمنين (بحل الدولة الفلسطينية المستقلة) الآن أن العالم تخلى فعليا عن حل الدولتين؟ ماذا لو كان حل الدولتين بالأساس قد أصبح مستحيل التحقيق؟
هو سؤال مشروع، ويضعنا جميعا في مهب الاحتمالات القادمة قريبا جدا.
تاريخيا، وحتى عام 1987، كانت مسارات الحلول الدبلوماسية ومصفوفاتها المتلاحقة بكل ما فيها من مبادرات أخذت أسماء عديدة، تأخذ مجراها الطبيعي ضمن أطر حلول القانون الدولي وقرارات المجتمع الدولي المتراكمة منذ عام 1967.
مثلا، في أبريل من عام 1987، كانت آخر المحاولات شبه الناجحة للوصول إلى حل مفترض، حين وصل الملك الراحل حسين بن طلال مع شمعون بيريز (شريك إسحق شامير في حكومة الوحدة الوطنية ووزير الخارجية آنذاك)، إلى حزمة تفاهمات كادت أن تصل إلى اتفاقية موقعة لولا حيلة شامير ويمينه المتطرف التي أجهضت كل شيء دفعة واحدة، هذا اليمين أعاد إنتاج نفسه اليوم بشعور غطرسة وعجرفة أكبر بكثير من زمن شامير وشارون وبيغين.
كانت التفاهمات ستفضي إلى اتفاق دولي برعاية أميركية بحيث يدعو الأمين العام للأمم المتحدة كافة الدول الخمس دائمة العضوية في مجلس الأمن والأطراف ذات العلاقة في الصراع العربي-الإسرائيلي لإجراء مفاوضات على أساس قراري 242 و338، وهما القراران اللذان لا يزالان فاعلين حتى اليوم رغم كل ما تراكم بعدهما من اتفاقيات خارج مسارات الحل الطبيعي والقانوني ضمن الشرعية الدولية (أو ما تبقى منها).
ما حدث بعدها أن "تحالفا سريا غير معلن قائم على تقاطع المصالح المتوازية التي لا تلتقي" نشأ بين رؤية شامير اليمينية الهادفة إلى السيطرة على الضفة الغربية كاملا وضمها إلى الدولة الإسرائيلية، ورؤية منظمة التحرير الفلسطينية بقيادة ياسر عرفات التي كانت تحلم بالدولة الفلسطينية المستقلة على جغرافيا الضفة والقطاع.
نقطة التقاطع كانت بإخراج الأردن من المعادلة برمتها، فرؤية الملك الراحل "الوحدوية" للضفتين كانت ضد رؤية شامير بضم الضفة كاملا، وضد حلم عرفات بسجادة حمراء على أي مدرج لأي مطار فلسطيني.
كان قرار المجتمع الدولي 242 قائما على انسحاب إسرائيل من أي أراض محتلة، وكانت الضفة الغربية بحكم الواقع جزءا أصيلا من المملكة الأردنية الهاشمية وقت الاحتلال.
ما حدث عام 1987 وبعد ذلك، أن فكرة الدولة الفلسطينية صارت هي الهدف (حتى بدون أرض)، فكان فك الارتباط القانوني والإداري، وهو قرار كانت منطلقاته مزاجية غاضبة من الملك الأردني الراحل، تزامن مع إعلان الدولة الفلسطينية في الجزائر من طرف واحد، لننتهي بعد حرب الخليج المأساوية في نهاية الثمانينيات بمؤتمر مدريد، آخر محاولة دولية جادة برعاية المجتمع الدولي لتطبيق قرارات الأمم المتحدة خصوصا قراري 242 و338.
في مدريد.
كان الأردنيون يفاوضون وتحت مظلتهم كان وفد فلسطيني من الداخل المحتل، بعيدا عن أجندات منظمة التحرير الفلسطينية ومشاركتهم المباشرة، وهذا أدى إلى مسار آخر بعيد في شمال القارة الأوروبية حيث كانت أوسلو، والتي انتهت باتفاقية مستعجلة تناسب تماما طموحات ياسر عرفات ومنظمته بالسجادة الحمراء لكنها بالتأكيد لم تتناسب مع قرارات المجتمع الدولي المرسخة والموثقة منذ عام 1967.
كانت اتفاقية وادي عربة بين الأردن وإسرائيل، رد فعل طبيعي ومباشر ومستعجل أيضا لاتفاقية أوسلو، مما جعلها مرتهنة بكل تداعيات ومآلات أوسلو أيضا.
واليوم، مع نهاية حل الدولتين فعليا، مما يعني نهاية أوسلو، وبالضرورة وادي عربة (حتى بينيت نفسه يعلن سقوطها من طرفه)، فإن العربة لم تعد أمام الحصان ولا خلفه.. العربة الآن بلا حصان.
أمام هذا الفراغ المرعب الذي نعيشه اليوم، وقد رحل عرفات بكل كاريزميته الفلسطينية، التي كانت وللإنصاف تشكل رمزا حقيقيا لهوية فلسطينية موحدة، وبقيت سلطته للحكم الذاتي وقد تقلصت أكثر وأكثر لتنتهي بمخفر أمني-بوليسي بلا صلاحيات حقيقية يديره محمود عباس المشكوك بكل صلاحياته الشرعية، وأجهزته الأمنية التي تعبر عن سيادة غريبة ومشوهة: سيادة من هم تحت الاحتلال على من هم تحت الاحتلال وبقبضة أمنية وقصص فساد لا تنتهي.
انتهت القيادة الفلسطينية التي حلمت بعلم وسجادة حمراء ونشيد وطني ونشرة أخبار تتصدرها صور الرئيس الفلسطيني إلى مجسم غريب بالغ التشوه، أقل بكثير من دولة وليس بالتأكيد حكما ذاتيا.
في الخلاصة؛ اتفاقية أوسلو (مع إسقاط الحل النهائي في القدس وحق العودة واللاجئين وتوطين المستوطنات) سقطت فعليا، ونخبة الحكم الفلسطيني "القادمة بغالبيتها من الخارج" أثبتت فشلها وسقطت وانتهت صلاحيتها.
تلك النخبة التي تحكم في السلطة "منتهية الصلاحية فعليا"، هي ذاتها القيادة التي تحدث عنها موشي أرنز، وزير الدفاع الإسرائيلي الأسبق، في معرض تحليله للأخطاء والعثرات في مجمل العملية السلمية بقوله إن "إسرائيل أخطأت منذ البداية حين فضلت التعامل مع قيادة فلسطينية بدءا من عرفات والمقربين معه من المنظمة في تونس بدلا من قيادة فلسطينية محلية من الداخل".
ويوضح أرنز بقوله "إنه لم يكن هناك داع للسفر إلى أوسلو بينما هناك فلسطينيون قريبون في رام الله والخليل وغزة".
في الخلاصة،وعلى نفس طريقة الملك عبدالله الثاني بطرح الأسئلة أمام البرلمان الأوروبي عام 2020 أتساءل بذات الصيغة:
ماذا لو عدنا إلى مدريد؟ ماذا لو طبقنا القانون الدولي ضمن أسس واقعية؟ ماذا لو حلمنا من جديد بسلام، واقعي وممكن، تركنا حجر أساسه في مدريد، لنبني وهما بلا أساس في أوسلو؟