كيف أصبحنا أغبياء؟

{title}
أخبار الأردن -

 

أ.د.محمد كمال
الجدل الذى يثار من وقت لآخر على منصات التواصل الاجتماعى حول قضايا وهمية، وينساق للمشاركة فيه ملايين من الأفراد، مثل موضوع تغميض تمثال أبوالهول عينيه وغيره، يحتاج إلى تحليل عميق لأنه أحد مؤشرات الحالة الذهنية والمزاجية والسياسية للمجتمع.

هذا الجدل ذكرنى بمقال نشر حديثا بمجلة أتلانتك الأمريكية بعنوان «كيف حلت وسائل التواصل الاجتماعى لحمة المجتمع وجعلت أمريكا غبية؟».

إحدى الأفكار الرئيسية فى المقال هى أن هناك ثلاثة أسس رئيسية على الأقل تربط المجتمعات الناجحة هى: المؤسسات القوية، والروايات المشتركة (أى توافق الرؤى حول قضايا كبرى) ورأس المال الاجتماعى (شبكات اجتماعية واسعة تتمتع بمستويات عالية من الثقة)، وقد أضعفت آليات التواصل الاجتماعى هذه الأسس الثلاثة، وأصابت المجتمعات بحالة من «الغباء الهيكلى» الناتج عن الجدل دون الاستناد إلى حقائق أو أدلة علمية.

والأمر لا يتعلق فقط بضياع الوقت وتوجيه الاهتمام لقضايا لا تستحق الاهتمام، ولكن يساهم فى ازدهار التحيزات الناتجة عن الحوار داخل قوقعة لمجموعات تتشابه فى الأفكار، وليس الحوار مع مجموعات تختلف عنها فى الفكر، وهو ما يؤدى إلى تعزيز التطرف وغياب الرشادة.

ولكن كيف حدث هذا الأمر؟

فى تجسيداتها المبكرة، كانت المنصات الاجتماعية مثل الفيسبوك وماى سبيس Myspace غير ضارة نسبيًا، حيث سمحت للمستخدمين بإنشاء صفحات يمكن من خلالها نشر الصور والتحديثات العائلية من أجل أن يطلع عليها الأسرة والأصدقاء، وبهذه الطريقة، كانت مجرد خطوة أخرى فى التقدم الطويل للتطور التكنولوجى، والتى ساعدت الناس على تحقيق الهدف الأبدى المتمثل فى الحفاظ على روابطهم الاجتماعية.

ولكن هذا الأمر بدأ يتغير عام ٢٠٠٩، عندما عرض الفيسبوك على المستخدمين طريقة لـ «الإعجاب/ لايك» بالمنشورات بنقرة زر واحدة. وفى نفس العام، قدم تويتر شيئًا أكثر قوة وهو زر «إعادة التغريد»، الذى سمح للمستخدمين بتأييد منشور علنيًا مع مشاركته أيضًا مع جميع متابعيهم، وسرعان ما نسخ فيسبوك هذا الابتكار باستخدام زر «مشاركة/ شير» الخاص به، والذى أصبح متاحًا لمستخدمى الهواتف الذكية فى عام 2012.

بعد فترة وجيزة من بدء زر «أعجبنى» قام الفيسبوك باستخدام خوارزميات لتزويد كل مستخدم بالمحتوى الذى يُرجح أن ينتج عنه «إعجاب» أو «مشاركة»، وأظهر بحث لاحق أن المحتوى التى يثير المشاعر- وخاصة الغضب- هو الأكثر احتمالية للمشاركة.

بحلول عام ٢٠١٣، أصبحت وسائل التواصل الاجتماعى لعبة جديدة، تتمتع بديناميكيات مختلفة عن تلك التى كانت موجودة عام ٢٠٠٨، وأصبح بقدرة أى شخص إذا كان ماهرًا أن ينشئ منشورًا من شأنه أن «ينتشر بسرعة» Viral، وشجعت هذه الآلية على عدم الأمانة وديناميكيات الغوغاء، وكشف أحد المهندسين فى تويتر الذين عملوا على زر «إعادة التغريد» أنه نادم على مساهمته لأنها جعلت تويتر أكثر سوءا، وقال «ربما نكون قد سلمنا للتو طفلًا يبلغ من العمر ٤ سنوات سلاحًا محشوًا بالذخيرة».

ويشير المؤلف إلى أنه مما لا شك فيه أن وسائل التواصل الاجتماعى أعطت صوتًا لبعض الأشخاص الذين لم يكن لديهم سوى القليل من الأهمية، وسهلت محاسبة الأشخاص الأقوياء والمسؤولين عن أفعالهم السيئة، ليس فقط فى السياسة ولكن فى مجال الأعمال والفنون والأوساط الأكاديمية وأماكن أخرى. ومع ذلك، فإن «المساءلة» المشوهة لوسائل التواصل الاجتماعى جلبت أيضًا الظلم- والخلل السياسى- بثلاثة طرق. أولاً، تمنح وسائل التواصل الاجتماعى المزيد من القوة للمتصيدين والمحرضين بينما تُسكِت المواطنين الجيدين. ثانيًا، تمنح وسائل التواصل الاجتماعى مزيدًا من القوة والصوت للمتطرفين السياسيين مع تقليل قوة وصوت الأغلبية المعتدلة، وأخيرًا، من خلال منح الجميع سلاحًا رشاشًا، تنيب وسائل التواصل الاجتماعى الجميع فى إقامة العدل، دون اتباع الإجراءات القانونية الواجبة، ويجذب الهجوم الناجح وابلًا من إبداءات الإعجاب والمتابعة. ومن ثم، فإن هذه المنصات تسهل العقاب الجماعى الهائل للجرائم الصغيرة أو المتخيلة، مع عواقب فى العالم الحقيقى، بما فى ذلك الأبرياء الذين يخسرون سمعتهم أو مكانتهم.

إذن ما الذى يجب عمله؟، المقال يطرح أفكارا كثيرة منها إصلاح المؤسسات الرئيسية لتتمكن من الاستمرار فى العمل حتى لو زادت مستويات الغضب والتضليل والعنف أعلى بكثير من تلك التى لدينا اليوم. والعمل على الحد من قدرة وسائل التواصل الاجتماعى على تبديد الثقة ودعم الغباء الهيكلى، وإتاحة مزيد من الصوت للأصوات العاقلة والمعتدلة. ولكن التوصية الأهم تتعلق بتجهيز الجيل القادم، للتعامل مع هذه الفوضى.

باختصار، نحن إزاء ظاهرة خطيرة تهز الثقة فى كل شىء، وتدفع نحو المزيد من الاستقطاب والانقسام، وتحتاج تفكيرا غير تقليدى لدراسة تداعياتها وكيفية التعامل معها

تابعونا على جوجل نيوز
تصميم و تطوير