من التبعية إلى الاعتماد المتبادل والأمن الغذائي
أخبار الأردن -
بقلم: الدكتور خالد واصف الوزني
أستاذ مشارك سياسات عامة
كلية محمد بن راشد للإدارة الحكومية
إرهاصات التحوُّلات العالمية المعاصرة، والتبعات المستمرة لجائحة كورونا، تشير صراحة إلى الحاجة الماسة لدول العالم لوضع الأمن الغذائي على رأس أولوياتها. ذلك أنَّ الفجوة الغذائية قائمة في معظم دول العالم، وأنَّ التبعية لمصادر أو اقتصادات بعينها في توفير ما يسد تلك الفجوة هو بمثابة فقدان للاستقلالية الاقتصادية، والاجتماعية، والسياسية على حدٍّ سواء. وقد أظهرت الأزمة الروسية الأوروبية، عبر الحرب القائمة مع أوكرانيا، هشاشة النظام العالمي الغذائي والمالي على حدٍّ سواء، وتشير تقارير حديثة إلى أنَّ أسعار المواد الغذائية ارتفعت بنسبة 33% على أساس
سنوي في شهر آذار/ مارس المنصرم. كما انعكس انقطاع طُرق الإمدادات، وارتفاع كلف سلاسل التزويد، على توافر السلع من جهة، وعلى أسعار العملات العالمية، بل وعلى موازين المدفوعات، والعجوزات المالية للدول، والمديونية الخارجية لها، من جهة ثانية. والمحصلة، أننا أمام نظام عالمي جديد، سماته نظام بعملات وتسويات مالية مختلفة، وبفاعلين عالميَّين جدد، في سوق السلع الأساسية، وتوجُّهات عالمية جديدة، في مجال الطاقة، والتزود بالنفط، بل وآليات التسعير العالمية، بما في ذلك قواعد السيطرة والتحكم في التسعير. الشاهد أنَّ النظام العالمي يتجه إلى ثلاث
أيقونات جديدة، واحدة تتعلَّق بنظام التسويات العالمي، بين العملة التقليدية؛ أي الدولار، والعملات المُسيطرة عبر السلع، مثل الروبل واليوان، والعملات الرقمية والمُشفرة. والأيقونة الثانية، تتعلَّق بنظام بدائل الطاقة، بين التقليدية والمتجددة والبديلة. والأيقونة الثالثة تتمثَّل في تجسير الفجوة الغذائية، عبر التكاملية الجغرافية، وتكاملية الموارد الطبعية، والبشرية، وتكاملية الموارد المائية والطاقة. وعبر التقنيات الحديثة في الزراعة والثروات الحيوانية. ولعلَّ أكثر الإيجابيات التي ستتحقَّق من تبعات الجائحة العالمية، وجرّاء الصراع الأوروبي الأمريكي الروسي، تتمثَّل في
التحوُّل العالمي نحو ذلك النظام الجديد، وخاصة ما يتعلَّق بصدمة توافر السلع الغذائية، والتوجُّهات لدى العديد من أكبر دول الانتاج الزراعي، مثل الهند، نحو وقف التصدير، والنزوع إلى الاحتفاظ بالفائض ضمن سلسلة غذائية تُفضِّل المخزون الاستراتيجي الوطني على التدفقات المالية الخارجية من عوائد التصدير.
الشاهد مما سبق أنَّ المنطقة العربية ليست في معزل عمّا يحدث، بل هي من أكثر المتأثرين، وخاصة ما يتعلَّق بالفجوة الغذائية، وما يتطلبه ذلك من تجسير إقليمي نوعي، هو بالنسبة للمنطقة العربية، أمر لا مندوحة عنه، بل وسيحقِّق فائضاً غذائياً قد يسهم في تجسير الفجوة من احتياجات أخرى عبر التجارة العالمية. والمطلوب هو التحوُّل من الاعتمادية والتبعية للعالم الخارجي في تجسير الفجوة الغذائية، إلى الاعتمادية المتبادلة بين دول المنطقة العربية وأقاليمها الثلاثة في الهلال الخصيب، والخليج العربي، والشمال الإفريقي. ففي منطقة الهلال الخصيب من مصر إلى
العراق مروراً بلبنان والأردن وسوريا وفلسطين، تتنوَّع الطبيعة الزراعية، بما في ذلك الثروة الحيوانية، ويمكن الجزم بأنها قادرة على توفير سلة غذاء متكاملة لمواطني تلك الدول البالغ عددهم نحو 170 مليوناً، بل وتحقيق فائض زراعي وثروة حيوانية يمكن تبادلها مع باقي الأقاليم العربية في الخليج والشمال الإفريقي، أو مع العالم الخارجي، مقابل برامج تبادل سلعية أو خدمية Offset Programs. والمطلوب هنا تحديداً هو إنشاء اتفاقية إقليمية مُلزمة لدول كل إقليم ضمن مفهوم يمكن تسميته "اتفاقية المجلس القومي للأمن الغذائي الإقليمي"، على إنّ نجاح هذه
الاتفاقية الإقليمية يقوم على أعمدة ثلاثة أساسية: الأول ضرورة التصديق عليها تشريعياً من كافة الدول المعنية، ووفقاً للمسار التشريعي لكل دولة، بما يجعل من الاتفاقية مساراً تشريعياً مُلزماً للجميع، مهما تغيَّرت الحكومات أو الأنظمة. العماد الثاني، ضرورة الاتفاق على آليات تنظيمية
محددة لعمل تلك الاتفاقية، وذلك يشمل آلية عملية للتسويات المالية بين الدول، وآلية تجارية للتبادل التجاري وتسهيل التجارة في المواد الغذائية، وآلية واضحة لتبادل الخبرات وصياغة المواصفات الفنية والصحية، وأخيراً وليس آخراً، آلية مرنة لانتقال العمالة ورأس المال في المجال الزراعي المرتبط بالاتفاقية. والعماد الأخير والأهم، هو ضرورة وضع آلية واضحة شفّافة وعادلة لتسوية النزاعات؛ المالية، والتجارية، والعمالية، والقضائية بين دول الإقليم، ويجب أن تكون مُلزمة للجميع، ويُحتَكَم في أيِّ نقض لها ضمن منظومة النظام العالمي الجديد، وتحوي من الردع ما يمنع بشدة أي تجاوزات مستقبلية في أي من القضايا المرتبطة بتنفيذها مالياً، وتجارياً، وعُمَّالياً وزراعياً، ذلك أنَّ معظم الاتفاقات العربية عبر التاريخ، فشلت لعدم وجود آلية تسوية نزاعات واضحة وشفّافة ومُلزمة للجميع. يبقى القول: إنَّ المنطقة العربية تفتقر إلى ترف الوقت في معالجة
ما قد ينجم عن انقطاع إمدادات الغذاء من العالم الخارجي، وإنَّ التبعية في القمح، وفي الموارد الزراعية الأخرى، هي تبعية سياسة، يمكن تعويضها بالكامل عبر التحوُّل نحو الاعتماد الإقليمي المتبادل، وإنَّ أقاليم المنطقة الثلاثة غنية بالموارد الطبيعية، وبالثروات الحيوانية، وإنها قادرة ليس فقط على الاكتفاء الذاتي، بل والتصدير عالمياً. والأهم القول: إنَّ التقنيات الحيدثة في الزراعة والثورة الحيوانية، مما يُسمّى الأجروبونكس Agriponics، والأكوابونكس Aquaponics ، الأجروتكAgrotechnology ، جعلت من الممكن، بل والمؤكد، التحوُّل نحو الاكتفاء
الزراعي، وكل ما يتطلبه ذلك هو توجيه الطاقات الشبابية والريادية نحو ذلك الاستثمار، وتوفير المكان، والتسهيلات للطاقات الشبابية، والفوائض المالية العربية لتطبيق تلك التقنيات وتوطينها عربياً ضمن منظومة تسهيلات كبرى، بما في ذلك تسهيلات في توفير الأرض بمساحات مناسبة دون ثمن وبسياسات تحويل الملكية بعد الاستثمار والإنتاج، أو الدخول بشراكات مناسبة عبر تقدير ثمن الأرض في تلك الشراكات. المعادلات في مجال الشراكة في هذا المجال كثيرة ويمكن اللجوء لأي منها. وختاماً، لا بدَّ من توليد إرادة سياسية عليا بين قيادات كل إقليم للتحوُّل فوراً نحو إطلاق المشروع، وتوقيع الاتفاقيات، وتفويض تطبيقها للمختصين، وليس السياسيين، للوصول إلى أفضل النتائج والخروج الآمِن ممّا سيواجه المنطقة من مجاعة أو فجوات غذائية كبرى في المستقبل. الوقت ليس في صالح أحد، بيد أنَّ الحلول متوافرة وفي متناول الجميع.