خطاطبة يكتب: ورقة توت تغطي سوأة البنية التحتية
محمود خطاطبة
الغيث الذي أنزله الله جلّ في علاه، من بعد إياس واستسقاء ليُنعش الأرض ويُحيي قلوبنا، لا يكشف التنوع الفريد لمناخ بلدنا فقط، بل يُميط اللثام عن سوْءات طالما أُخفيت تحت «إسفلت» الطُرقات، وخرائط المشاريع، وتقارير الإنجاز والجاهزية.. وكأن التقارير هي ورقة التوت التي تُمزقها الهطلات المطرية كُل عام، وتطفو معها عديد الأسئلة الثقيلة على سطح الشوارع الغارقة في الطين، كيف تُدار المُدن والقُرى، ومن يُحاسب، ولماذا تتكرر القصة ذاتها كُل شتاء بلا اعتذار وبلا إصلاح جذري؟.
لا يحتاج المشهد قُدرة فائقة، ولا أدوات استثنائية في التحليل، ففي كُل موسم يتكرر المشهد نفسه، طُرق تتحول إلى بحيرات طينية، وأحياء تُحاصرها المياه، ومواطنون يوثقون العجز بالصور ومقاطع الفيديو.. وكأن المُشكلة ليست في تبدل المناخ، ولا الفيضانات الومضية وغزارة الهطل، بل في هشاشة ما تحته.
وهُنا يُصبح المطر شاهدًا لا مُذنبًا، وكاشفًا لا سببًا، وكأنه يؤدي دور الصحفي في الإشارة إلى ما أخفته تقارير الجاهزية وأهبة الاستعداد.
تاريخيًا، لم تكن البلديات، ولا ينبغي لها، أن تكون مجرد صناديق تحصيل مُسقفات وعوائد تنظيم ومُخلفات ونفايات وإنارة وجمع نفايات بالحد الأدنى، بل مؤسسات حُكم محلي، وبيوت خبرات وتجارب دولية ناجحة، ومُهندسة عصب التخطيط الحضري، ومُختبر الإدارة الرشيدة، وصمام أمان العلاقة بين المواطن والدولة.
رُبما حان الوقت أن ننظر إلى البنية التحتية، بوصفها استثمارًا طويل الأمد، لا مشروعًا موسميًا، وأن نقيس كفاءة المسؤول بعدد الأزمات التي منعها لا بعدد المؤتمرات التي عقدها.. في واقعنا المحلي تتشابه الأعذار، وتختلف التسميات، هطل غير متوقع، ظرف استثنائي، كمية أمطار قياسية، لكن السؤال المركزي يبقى مُعلقًا في الهواء الثقيل: «ماذا تفعل البلديات، ولماذا تبقى طالما أن مُهمتها الأساسية يشوبها تقصير واضح لكُل عيان؟».
فيديو الفتاة التي سقطت في «عبّارة»، وهي تسير على الرصيف، مؤخرًا، جال الكرة الأرضية، وعرضته فضائيات عربية وعالمية، وشاهده أكثر من 450 مليون إنسان، والسؤال «هل الخلل في الموارد أم في التخطيط أم في غياب المُساءلة التي تُحوّل الخطأ من درس إلى عادة؟».
أقول، أحيانًا يُمكن تصنيف المشهد الاجتماعي هُنا إلى ثلاث فئات: مواطن اعتاد الغرق، لكن التكنولوجيا الحديثة سمحت له التوثيق بسخرية مُرة، ومسؤول يكتفي بإدارة الأزمة، لا منعها، وبلدية غارقة في الترهل والبيروقراطية والديون وجيش من الموظفين، المئات إن لم يكن الآلاف منه لا يحضرون اليها إلا لاستلام الراتب.. وبين هذه الخلطة، تضيع المسؤولية، ويتحول التقصير إلى ضباب إداري كثيف.
أذكر تصريحًا لوزير الأشغال العامة والإسكان الأسبق، فلاح العموش، حين كان رئيسًا للجنة بلدية الزرقاء، قبل عقد من الزمان، بأن وحدة الطوارئ في البلدية لديها 84 موظفًا، ولا يوجد فيها سوى طاولة وجهاز هاتف أرضي، وأن أكثر من 850 موظفًا لا يحضرون إلا لاستلام الراتب.. هذا فيض من غيض، وفي تقارير ديوان المُحاسبة ما هو أدهى وأمر.
لا يليق بالأردن التكرار، والتكرار هُنا هو بيت الداء، تتكرر الأزمة، ويتكرر الوعد، ويتكرر النسيان، ومع كُل هطل جديد، نعود إلى النقطة نفسها، وكأن الزمن يدور في حلقة مائية مُغلقة، لا مُراجعة شاملة، ولا مُحاسبة علنية، ولا سؤالا صريحا عن جدوى بقاء مؤسسات لا تُقاس فعاليتها إلا عند الفشل.
لا نُطالب البلديات بالمُستحيل، بل بالحد الأدنى من الكفاءة والصدق، فالمطر سيستمر في الهطل، شئنا أم أبينا.. ويبقى السؤال الحقيقي ليس متى تُمطر؟، بل كيف يُمكن تحويل كُل قطرة مطر إلى حافز للمُساءلة والتطوير، أم سنبقى نبحث عن ورقة توت جديدة، بينما العورة مكشوفة للجميع؟.

