كراجة يكتب: يزن النعيمات والتحديث السياسي
سائد كراجة
لا أفضل الخلط بين الرياضة والسياسة، حيث إن إدخال السياسة إلى الملاعب يفسد المعنى ويشوّه المتعة. ويُقال أيضًا إن كل شيء في الحياة سياسة. وبين هاتين المقولتين المتقابلتين، تضيع أحيانًا مساحة أكثر اتزانًا للفهم؛ فليس كل ما يصل إلى الناس يصل عبر خطاب أو شعار كلامي ليكون مؤثّرًا. ولا كل ما هو سياسي يجب أن يُمارَس بوصفه سياسة مباشرة.
الرياضة، كالفن والمسرح، تعمل داخل نسقها الخاص. قوتها لا تكمن في التنظير، بل في الفعل. اللاعب الذي يدخل الملعب ليلعب بصدق، ويبدع دون ادعاء، ويعيش لحظة شبابه بعفوية، لا يقدم موقفًا سياسيًا معلنًا، لكنه يصنع معنى عامًا يتجاوز الملعب: معنى الانتماء، والفرح المشترك، والعمل الجماعي، والقدرة على الاجتماع حول شيء جميل في زمن مثقل بالتوتر.
في هذا السياق، يمكن النظر إلى يزن النعيمات بوصفه أكثر من لاعب كرة قدم. فحضوره لم يكن قائمًا على خطاب أو رمزية مصطنعة، بل على أداء صادق جعل الناس تلتف حوله دون تنظير أو تأطير أو وصاية. من خلال اللعب النظيف، والالتزام، والفرح البسيط، حكى عن الهوية الأردنية أكثر مما تفعل كثير من الخطابات، وجسّد معنى اللحمة الوطنية بالفعل، لا بالشعارات الرنانة.
ولعل السؤال الأعمق هنا ليس عمّن يصل إلى البرلمان، بل عمّن يملك أصلًا القدرة على جمع الناس. تخيّلوا حجم الثقة الشعبية التي يمكن أن يحصدها شخص يحظى بهذا القدر من القبول العام، دون توتر، دون مشاحنة، ودون خطاب تعبوي. مفارقة كهذه لا تقول الكثير عن الرياضة، بقدر ما تكشف حال السياسة نفسها، والمسافة التي باتت تفصلها عن الناس.
غالبًا ما يُختزل التحديث السياسي في الأحزاب والبرامج والبيانات. وهذه عناصر مهمة، لكنها ليست نقطة البداية. فالأحزاب هي الشكل القانوني لممارسة السياسة، لا فضاءها الوحيد. التحديث السياسي الحقيقي يبدأ حين يتعلم المجتمع احترام سيادة القانون، وتقدير الجهد المبذول، والعمل بروح الفريق، والاعتراف بالنجاح دون تخوين أو تشكيك. وهذه القيم تُصاغ يوميًا في ملاعب كرة القدم، وفي المسرح الجامعي، وفي الفنون الشعبية، وفي المدرسة قبل أي خطاب سياسي.
ولا تغير لحظات الإنجاز الرياضي أرقام الاقتصاد أو تعيد رسم المؤشرات السياسية. لكنها تفعل ما هو أعمق وأهدأ: تُخرج في الناس أحسن ما فيهم. تخلق دافعية شخصية نحو الإتقان، وتفتح مساحات للفرح، وتخفف من حدّة النقد العدائي، وتُظهر تنوع المجتمع في صورته الأجمل؛ في التشجيع، وفي التعاون، وفي اللغة، وحتى في الحس الفكاهي الراقي. هنا نرى الأردنيين مختلفين دون خصومة، ومتفقين دون وصاية.
السياسة التي تُحبس داخل المجال السياسي وحده، وتغرق في خطاب الشحن والتنافر، كثيرًا ما تُضعف القضايا الوطنية بدل أن تخدمها. أما حين تُترك مساحات المجتمع لتعمل بطبيعتها، فإنها تنتج وعيًا جمعيًا أكثر تماسكًا، وأقرب إلى الناس.
من هنا، يصبح التمني ليزن النعيمات بالشفاء والعودة إلى الملعب أكثر من تعاطف شخصي. هو تمنٍ بعودة رمز شبابي يذكّرنا بأن السياسة، في معناها الإنساني الأوسع، لا تبدأ من الأحزاب، بل من قدرتنا على الفرح المشترك، وعلى أن نكون أفضل، ولو مؤقتًا، حين نلتف حول إنجاز صادق.
قلوبنا معك يا يزن، ودعواتنا لك بالشفاء العاجل، وعودة قريبة للملاعب، وللأردن الذي أحببته فأحبّك. جنابك

