المنسي يكتب: الضمان الاجتماعي في ميزان النقاش العام
جهاد المنسي
يعاد فتح ملف مشروع قانون الضمان الاجتماعي في توقيت بالغ الحساسية، وتعود معه الدراسة الاكتوارية إلى واجهة النقاش العام، ليس بوصفها أداة تقييم فني، بل كعنوان ومدخل لتعديلات تشريعية تمس واحدة من أهم ركائز الحماية الاجتماعية في البلاد، وبين الأرقام والتقديرات، يغيب السؤال الأهم: هل المشكلة في قانون الضمان، أم في السياسات التي أُدير بها الاقتصاد والمالية العامة؟
بداية دعونا نتفق أن الضمان الاجتماعي لم يُنشأ ليكون خزينة عامة، ولا رافعة مالية تُستَخدم عند تعثر الخيارات، وانما هو صندوق قائم على اشتراكات العاملين وأصحاب العمل، يقوم على مبدأ الثقة والاستدامة والعدالة بين الأجيال، وعندما يُطرح تعديل قانونه بحجة الاستدامة، يتحول دوره من أداة حماية إلى رافعة مالية للسياسات العامة، وهو ما يضع الشريحة الأوسع من المشتركين والمتقاعدين في مواجهة عبء لم يكونوا طرفاً فيه.
المؤسسة العامة للضمان الاجتماعي أعلنت السبت عن نتائج الدراسة الاكتوارية وظهر فيها ارتفاع نفقات تأمين الشيخوخة والعجز والوفاة نتيجة التقاعد المبكر، الذي أصبح السمة الغالبة بنسبة
64 % من إجمالي المتقاعدين، بينما لا تتجاوز هذه النسبة 25 % في معظم الدول المماثلة، هذه الأرقام الدقيقة تطرح سؤالاً أساسياً: من سمح بأن يصبح التقاعد المبكر قاعدة؟ أليس ذلك نتاج سياسات تشغيلية واقتصادية تراكمت على مدار السنوات؟ وتشير الدراسة إلى التهرب التأميني ونقص الشمول، حيث ما يزال 22.8 % من العاملين في سوق العمل المنظم خارج مظلة الضمان، ما يزيد الضغط على الموارد التأمينية ويستدعي معالجة حقيقية وجذرية، وهو هدف يتوجب العمل عليه بشكل حثيث.
المؤسسة أعلنت أن نقطة التعادل الأولى تتحقق في عام 2030 وهو وقت قريب جدا، ونوهت أن التوسع في التقاعد المبكر هو السبب الأبرز في اقتراب نقطة التعادل، بيد أن هذا يتوجب أن لا يقلقنا وانما يجب التعامل معه كأداة تحفيز للعمل عليه ومعالجته، فنقطة التعادل مؤشر إداري يمكن التحكم فيه عبر سياسات رشيدة، وإدارة فعالة للاستثمار، وتعزيز الشمول، والسؤال الأبرز هو لماذا دفعنا آلاف العمال للتقاعد المبكر وخاصة أولئك العاملين في الجهاز الحكومي؟
الخطورة تكمن في استخدام هذه المؤشرات لتبرير تعديل القانون قبل استنفاد أدوات الإصلاح الأخرى، ورفع كلفة المعالجة على المشتركين والمتقاعدين، بدلاً من معالجة جذور الاختلالات في السياسات العامة وسوق العمل، إذ إن تعديل القانون يجب أن يكون الخيار الأخير، لا الأول.
الحقيقة الثابتة أن القوة الحقيقية لأي نظام ضمان اجتماعي لا تُقاس بالأرقام وحدها، بل بوضوح الحوكمة، واستقلال القرار، وشفافية العلاقة مع الحكومات، فالإصلاح الحقيقي يبدأ من وقف الاستدانة من أموال الضمان، ومن تعزيز الاستدامة عبر توسيع قاعدة الشمول، وتحفيز التشغيل، ومكافحة التهرب التأميني، وإدارة أفضل للاستثمارات، ووقف شلال التقاعد المبكر من الجهاز الإداري للحكومي، وهو ما تم الالتفات إليه مؤخرا.
الأكيد أن الحكومة سترسل لمجلس النواب مشروع قانون معدل لقانون الضمان الاجتماعي، وهنا يأتي الدور الدستوري لمجلس النواب، فالنواب اليوم لا يناقشون دراسة اكتوارية، بل مستقبل منظومة الحماية الاجتماعية في المملكة، والمطلوب منهم ألا يمرروا أي تعديل تحت ضغط التخويف أو العجلة، وألا يسمحوا بأن يصبح الضمان كبش فداء، عليهم طرح الأسئلة الجوهرية: لماذا استدانت الحكومة من الضمان؟ ما البدائل؟ ومن يتحمل المسؤولية عن السياسات التي أوصلتنا إلى هذه النقطة؟ وهل التعديل المقترح يعالج السبب أم يكتفي بعلاج الأثر؟
صندوق الضمان الاجتماعي أمانة في أعناقها، وأمانة في أعناق ممثلي الشعب تحت القبة، والمؤمل هو حماية الضمان مع التركيز على الإصلاح الجذري للسياسات العامة، فذاك هو الطريق الوحيد للحفاظ على هذا الصندوق كحق للأجيال الحالية والقادمة، وضمان أن يبقى عقداً اجتماعياً قوياً وراسخاً.

