تمارا ناصر الدين تكتب : موازنة 2026 بين أرقام العجز وأهداف التحديث الاقتصادي
بقلم: النائب الدكتورة تمارا ناصر الدين
لم تعد أرقام الموازنة مجرّد بيانات مالية تُقرأ تحت القبة ثم تُطوى مع انتهاء الدورة؛ فهي اليوم جزء من مشهد أوسع اسمه رؤية التحديث الاقتصادي 2022–2033، التي قدّمتها الدولة كخريطة طريق لعقد كامل تحت شعار “مستقبل أفضل”، تقوم على ثلاثة محاور رئيسية: النمو الاقتصادي، جودة الحياة، والاستدامة.
هذه الرؤية حددت لنفسها أهدافاً طموحة، من بينها: استيعاب أكثر من مليون شاب وشابة في سوق العمل حتى عام 2033، وزيادة دخل الفرد الحقيقي بمعدل 3% سنوياً، ورفع ترتيب الأردن في مؤشرات التنافسية والازدهار والاستدامة، إلى جانب تحقيق معدل نمو اقتصادي أعلى بكثير من مستويات السنوات الماضية.
من هنا، يصبح النقاش حول موازنة 2026 ليس نقاشاً تقنياً فحسب، بل سؤالاً سياسياً واقتصادياً مباشراً:
هل تقرّبنا هذه الموازنة خطوة حقيقية من أهداف التحديث الاقتصادي، أم تُبقي الرؤية في خانة الوثائق والأمنيات؟
تشير أرقام مشروع الموازنة إلى ارتفاع الإيرادات العامة بنسبة 9.1% مقارنة بالعام السابق، ولكن رغم هذا الارتفاع يبقى العجز عند حدود 2125 مليون دينار، أي ما نسبته 4.6% من الناتج المحلي الإجمالي، مقابل 2258 مليون دينار في موازنة 2025 (5.2%). هذا يعني ببساطة أننا ما زلنا نعتمد على الاقتراض لتغطية جزء مهم من النفقات، مع ما يترتب على ذلك من تصاعد كلفة خدمة الدين وضيق الحيز المتاح للإنفاق التنموي.
في المقابل، تتحدث الموازنة عن نمو اقتصادي متوقع بحدود 2.9%، بينما تذهب تقديرات رؤية التحديث الاقتصادي إلى هدف أكثر طموحاً يتمثل بتحقيق معدل نمو حقيقي متوسط يقارب 5.6% خلال الفترة 2023–2033، بما يسمح بخلق فرص العمل المطلوبة وتحسين مستوى الرفاه.
الفجوة بين الرقمين ليست تفصيلاً؛ فهي تعني أن سرعة تحرك الاقتصاد لا تزال أقل بكثير من السرعة المطلوبة لتحقيق أهداف الرؤية في التشغيل والدخل وجودة الحياة.
أما على مستوى النفقات، ورغم أن زيادة الإنفاق الرأسمالي خطوة يمكن النظر إليها بإيجابية من حيث المبدأ، إلا أن السؤال الأهم يظل:
ما هي طبيعة هذه المشاريع؟ هل تتقاطع فعلاً مع محركات النمو الثمانية والقطاعات الـ35 التي حددتها رؤية التحديث الاقتصادي، من الصناعات ذات القيمة المضافة، إلى الخدمات المستقبلية، والسياحة، والاقتصاد الأخضر، والموارد المستدامة؟
رؤية التحديث الاقتصادي وضعت أكثر من 300 مبادرة ضمن برنامج تنفيذي حتى 2025، تركز على جذب الاستثمارات، وتحفيز القطاع الخاص، وخلق فرص العمل، وتوسيع قاعدة المشاركة الاقتصادية، خصوصاً للشباب والنساء.
لكن حين نقرأ أرقام الموازنة، لا نجد دائماً هذا الربط الواضح بين المشاريع الممولة وبين تلك المبادرات المحددة زمنياً ومؤسسياً؛ وكأنّ هناك مسارين يسيران جنباً إلى جنب دون تلاقٍ كافٍ: مسار رؤية طموحة، ومسار موازنات سنوية محافظة.
الخطورة هنا أن تبقى رؤية التحديث الاقتصادي وثيقة عالية الطموح، بينما تظل الموازنة أداة تقليدية لإدارة العجز وتمرير النفقات الجارية. في حين يفترض أن تكون الموازنة السنوية هي الأداة التنفيذية الأولى لترجمة الرؤية إلى برامج ومشاريع، ومؤشرات أداء، ونتائج ملموسة في سوق العمل وفي حياة الناس.
من منظور سياسي، المطلوب اليوم هو مواءمة حقيقية بين موازنة 2026 وأهداف التحديث الاقتصادي، وليس مجرد الإشارة إليها في مقدمات رسمية أو خطط عامة.
مواءمة تعني أن تكون أرقام النمو، وهيكل الإيرادات، وطبيعة الإنفاق الرأسمالي، والبرامج المرتبطة بالتشغيل والتعليم المهني والاستثمار، خاضعة لسؤال واحد واضح:
إلى أي مدى يساهم كل بند في تقريبنا من هدف استيعاب مليون فرصة عمل جديدة، وتحسين دخل المواطن، ورفع جودة حياته؟
إن موازنة 2026 يمكن أن تكون منعطفاً مهماً إذا استُخدمت كمنصة لتسريع تنفيذ رؤية التحديث الاقتصادي، عبر إعادة ترتيب الأولويات، وتوجيه النفقات نحو المشاريع الإنتاجية، وتعزيز الشراكة مع القطاع الخاص، وضبط الإنفاق الجاري، وربط كل ذلك بمؤشرات واضحة ومعلنة للمساءلة والمتابعة.
أما إذا بقيت الفجوة قائمة بين لغة الأرقام في الموازنة ولغة الأهداف في رؤية التحديث الاقتصادي، فسنجد أنفسنا بعد سنوات أمام رؤية لم تُنفّذ كما أريد لها، وموازنات مرّت دون أن تغيّر كثيراً في واقع البطالة أو مستوى المعيشة.
في النهاية، يبقى جوهر النقاش بسيطاً رغم تعقيد الملفات:
هل يشعر المواطن الأردني أن الموازنة ورؤية التحديث الاقتصادي تعملان معاً من أجله، أم أن كلّاً منهما يسير في مسار منفصل؟
الإجابة عن هذا السؤال هي التي ستحدد ليس فقط نجاح موازنة عام، بل اتجاه الأردن في عقد كامل قادم.

