العتوم يكتب: "طموحات طهران التوسعية: كيف تحوّل الخطاب الإيراني إلى تهديد صريح للأمن الخليجي؟"
د.نبيل العتوم
في خضم التوتر الإقليمي المتصاعد، تكشف التصريحات الأخيرة لحسين شريعتمداري، مدير صحيفة كيهان والمقرّب من المرشد الإيراني علي خامنئي، طبيعة المشروع الذي تعمل عليه طهران منذ سنوات: توسيع نفوذها الجغرافي والسياسي عبر خطاب تاريخي مشحون بالكراهية ، واستدعاء روايات قديمة لا أساس لها لتبرير المطامع الحديثة. إعادة طرح إيران لفكرة "أحقية ضم البحرين"، بالتزامن مع مهاجمة الإمارات بشأن الجزر الثلاث، لا يمكن قراءته بوصفه مجرد رأي صحافي، بل هو تعبير مباشر عن استراتيجية رسمية تتدرّج من الضغط السياسي إلى التهديد المعنوي ونقل الارهاب وتحريك الخلايا وصولاً إلى محاولة فرض وقائع جديدة على الأرض.
تستخدم طهران لغة تستند إلى مفاهيم الهوية والذاكرة التاريخية التي عاف عليها الزمن لتبرير التوسع، متجاهلة مبادئ القانون الدولي، ومعايير السيادة، والعلاقات بين الدول. فحين يشير شريعتمداري إلى أن البحرين "محافظة انفصلت عن إيران"، فهو لا يقدم رأياً عابراً، بل يعيد إحياء سردية سياسية مشروخة توقفت منذ نصف قرن، لتُستدعى اليوم كأداة ضغط على دول الخليج العربي بعد تعثّر المشروع الإيراني في جبهات أخرى. ما يثير القلق أكثر هو أن صاحب التصريح ليس شخصية هامشية؛ بل يمثل صوتاً معبّراً عن القوة الصلبة للنظام، ويعمل ضمن إطار يتيح له إطلاق رسائل استراتيجية ثم قياس ردود الفعل الإقليمية والدولية عليها.
في السياق ذاته، تأتي الإهانة المتعمدة التي وجّهها لإمارات العربية المتحدة بوصف تاريخها المرتبط بـ"ساحل القراصنة". فاختزال دولة حديثة وفاعلة في المشهد الاقتصادي والسياسي الاقليمي و العالمي بلقب مهين، يكشف عمق المأزق الإيراني: دولة تعيش صراعاً داخلياً على الشرعية والاقتصاد والهوية، فتختار الهجوم الخارجي لتوحيد الداخل حول خطاب "التهديد الخارجي". هذه اللغة ليست زلة، بل امتداد لنهج تستعمله طهران ضد كل دولة ترفض الخضوع لنفوذها، من العراق إلى سوريا ولبنان واليمن، وصولاً إلى الخليج العربي .
تبدو استراتيجية إيران اليوم قائمة على خلق بيئة صدامية مع دول مجلس التعاون، لأنها تدرك أن ملف الجزر الثلاث هو أحد مفاتيح التصعيد، كلّما اشتدت الضغوط الاقتصادية والسياسية والامنية والعسكرية على النظام، عاد لاستثمار هذا الملف كرافعة قومية تُستخدم لتحويل الأنظار عن الأزمات الداخلية، ولإحراج الحكومات الخليجية أمام شعوبها. إلا أن تصعيد الخطاب ليشمل الامارات و البحرين يعكس تحولاً خطيراً: انتقال من محاولة تثبيت وضع قائم في الجزر، إلى الحديث عن ضمّ دولة كاملة، بما يحمل ذلك من تهديد مباشر للسيادة الخليجية وللنظام الإقليمي برمّته.
المفارقة أن إيران التي تتحدث عن "حق مؤكد" لها في البحرين، تتجاهل تماماً ما يطالب به الإيرانيون أنفسهم داخل البلاد: حق العيش الكريم، وحق المشاركة السياسية، وحق التخلص من الفساد المستشري في مؤسسات الدولة، حقوق الأقليات ، وموضوع امارة عربستان ...والقائمة تطول . وبدلاً من مواجهة الاحتجاجات المتكررة، تلجأ السلطة إلى افتعال خصومات خارجية، وكأنها تحاول تعويض العجز والكساح الداخلي بإنجازات وهمية على مستوى الخطاب.
إن التصريحات ضد البحرين والإمارات تنذر بأن طهران باتت تقترب من مرحلة تستخدم فيها الملفّات العبثية كصواعق تفجير إقليمي، وليس كأوراق تفاوض. وهذا السلوك، الذي يدمج بين استعادة تاريخ مرفوض دولياً وبين إعادة رسم خرائط المنطقة، يضع دول الخليج العربي أمام واجب مضاعف: تعزيز التنسيق السياسي والأمني والعسكري ، ورفع مستوى الاستعداد لمواجهة أي محاولة إيرانية لاستثمار الفوضى أو الصراع لفرض واقع جديد.
ما قاله شريعتمداري ليس مجرد رأي؛ بل مؤشر على عقلية تعتبر الحدود قابلة للمراجعة، والسيادة ميداناً مفتوحاً للابتزاز، والجغرافيا ورقة مقايضة. وبذلك، يكشف النظام الإيراني مرة أخرى عن طبيعة مشروعه: مشروع لا يعترف باستقرار المنطقة، ولا يريد شراكة متوازنة، بل يسعى إلى هندسة شرق أوسط جديد تكون فيه طهران مركز الثقل ومصدر القرار والنواة لنشر الفوضى غير الخلاقة .
في لحظة حساسة كهذه، يصبح الردّ العربي والخليجي على هذا الخطاب ضرورة استراتيجية، لا مجرد موقف سياسي. فمشروع كهذا لا يتوقف عند حدود البحرين أو الجزر الثلاث، بل يستند إلى رؤية أوسع تسعى لاحتكار القوة وإعادة صياغة التوازنات الإقليمية بالقوة والتهديد. ولذلك، فإن ما قاله شريعتمداري لم يكن صدمة بقدر ما كان تذكيراً: إيران لا تزال ترى نفسها فوق الجغرافيا، وفوق القانون، وفوق الأمن الجماعي للمنطقة.

