الدباس يكتب: حين يدخل السفير مجلس العزاء.. مَن الذي حضر فعلاً؟!..
محمود الدباس - أبو الليث..
كان المشهد الدبلوماسي قديماً.. يشبه سوراً عالياً يخشاه الناس.. فمجرد الاقتراب من مبنى سفارة كان يثير الهمس.. وكأن الجدران تخبئ عيوناً لا تنام.. وكانت السفارات تُرى كمراكز مغلقة تجمع المعلومات من خلف الزجاج المظلل.. وكأنها محطات تجسّس.. أكثر منها بيوت علاقات بين الدول.. لكن الزمن تغيّر.. والعالم صار مكشوفاً بما يكفي ليجعل المعلومة تتسرّب من شاشة هاتف.. لا من خلف بوابة حديدية.. وبات ما كان سرياً بالأمس.. يُقال اليوم على شكل خبرٍ عابر.. أو منشورٍ عفوي.. وهكذا لم يعد الاقتراب من السفير.. أو ظهوره بين الناس علامة ريبة.. بل جزءاً من حركة جديدة في الدبلوماسية.. التي خرجت من الحجر إلى البشر.. ومن تقارير الظل إلى ملامسة الحياة مباشرة..
يبدو المشهد هنا أشبه بخيطٍ يمتد بين دولتين.. لكنه لا يمر عبر القصور.. ولا الوزارات وحدها.. بل يعبر من خلال الناس أنفسهم.. لذلك فإن حضور السفير في أفراحهم.. أو أتراحهم قد يمنح الدبلوماسية وجهاً مختلفاً.. وجهاً أكثر نعومة.. وأقل صخباً.. لكنه في الوقت نفسه.. يحتاج حكمة.. كي لا يتحول إلى ظلّ ثقيل فوق الموائد.. أو المآتم..
فالسفير الذي يقترب من الناس.. يكتشف ما لا تقوله التقارير.. ويفهم نبض الشارع.. ويرى التفاصيل التي تخفيها المخاطبات الرسمية..
لكن الفرق كل الفرق.. يكمن في الطريقة التي يدخل بها إلى المشهد.. فالسفير الذي يأتي بهدوء.. بلا كاميرات.. بلا بيانات.. بلا رغبة في أن يراه الجميع.. يكون أقرب للإنسانية منه للرسائل..
بينما السفير الذي يصطحب فريقه الإعلامي.. أو يترك الخبر يتسرب عمداً.. فهذا لا يحضر ليعزّي.. بل ليقول شيئاً آخر لا يُقال..
وهنا يصبح التوقيت جزءاً من الحكاية أيضاً.. فإذا جاء الحضور في لحظة سياسية حساسة بين البلدين.. أو بعد توترات.. أو تفاهمات سرية.. أو علنية.. يتحول العزاء إلى لغة إشارات.. أما حين يأتي في أيام عادية.. وفي ظرف لا يحمل شبهة توظيف سياسي.. يبقى ضمن حدود اللياقة الاجتماعية.. ولا يتنافى مع الاعراف الدبلوماسية..
ومن جهة أخرى.. حين يرى الناس سفيراً يترك بروتوكوله جانباً.. ليشاركهم لحظة إنسانية صافية.. قد يشعرون أن العلاقات بين الدول.. ليست صلبة من حجارة.. بل تتنفس وتتفاعل.. وهذا يزرع ثقة هادئة في القلوب.. كأن الدولة التي يمثلها تقول من خلاله.. نحن نفهمكم.. ونحترم مشاعركم.. لذلك نحن في هذا المكان..
وهكذا يصبح وجوده مقبولاً.. بل ومحموداً.. ما دام يأتي من الباب الأمامي.. ومن باب الإنسانية.. لا من الابواب الخلفية.. وفي عتمة الليل.. ولا من باب التسلل إلى قلب المجتمع لإطلاق رسالة مبطنة.. فالمجاملة الحقيقية.. ومن وحي المناسبة تفتح نافذة جميلة.. أما الاستغلال المقنّع.. والحديث بغير حديث المناسبة يغلق كل الأبواب.. ويثير الريبة..ويرفضه الجميع..

