المعاقبة تكتب: «حين يصبح الظلم جزءًا من جدول الأعمال الواسطة تربح… والوطن يخسر»
د.ثروت المعاقبة
تتسابق الدول لصناعة مؤسسات قوية وشفافة، وفي المقابل نجد بعض مؤسساتنا تُدار بعقليةٍ تعود بنا خطوات إلى الخلف؛ أبوابٌ تُفتح على الوجاهة لا على القانون، ومقاعدُ تُمنح بالمجاملة لا بالاستحقاق. كأن الهدف لم يعد خدمة المواطن، بل خدمة أصحاب النفوذ. حين تتحول المؤسسة من بيتٍ للعدالة إلى مسرحٍ للمحسوبية، يصبح الموظف مجرد رقم، والحقوق أوراق معلّقة، والقرارات رهائن المزاج الشخصي، وهنا تبدأ القصة الحقيقية لانهيار الثقة: ثقةُ المواطن بمؤسسته، وثقةُ الموظف بعمله، وثقةُ الدولة بنفسها.
المؤسساتٍ يُفترض بها أن تكون مناراتٍ للعدالة والإنصاف، أصبحت الواسطة والمحسوبية كأنها بطاقة الدخول الأولى، بينما تُركت الكفاءة على عتبات المكاتب تنتظر دورًا لن يأتي. لا شيء يقتل روح المؤسسة أكثر من مسؤولٍ لا يرى الموظفين إلا ظلالًا، ولا يسمع مطالبهم إلا إذا حملها نائبٌ، وزير أو صاحب جاه.
عندما يصبح الموظف صاحب الحق الأخير في مكتبه، وتُختزل المعاملة بأن «مين معك؟»، هنا لا نتحدث عن خلل إداري… بل عن تآكل حقيقي في بنية الدولة، يبدأ من رأس الهرم الإداري وينتهي عند أصغر موظف يشعر أنه غير مرئي.
هناك مسؤولون لا يفتحون أبوابهم إلا حين يقرعها نائب، وكأنهم بذلك يعلنون أن القانون لا يكفي، وأن كرامة الموظف لا تستحق دقيقة انتظار. هذا السلوك لا يصنع هيبة، بل يخلق خوفًا، ويغرس في نفوس العاملين شعورًا بالدونية، ويحوّل المؤسسة إلى مسرح لعروض النفوذ بدلاً من أن تكون فضاءً للعمل والإنتاج.
والمصيبة الأكبر: المسؤول الذي يسيء لموظفيه…لا يدرك أن كلماته الجارحة ليست مجرد «انفعال»، بل رصاصات تُطفئ الشغف، وتهدم الانتماء، وتدفع أفضل الكفاءات للرحيل بصمت. فريق العمل مرآة لأسلوب قائده؛ فإذا كان القائد متعاليًا، صار الموظفون مرتبكين، وإذا كان صوتُه قاسيًا صار الجو خانقًا، وإذا كان لا يقدّر جهدهم فلا تنتظر منه إنجازًا يرفع المؤسسة.
الإدارة ليست منصبًا فقط… الإدارة أخلاق، والمسؤول الحقيقي لا يحتاج نائبًا ليصل إليه الناس، ولا يستخدم سلطته ليقمع موظفًا، ولا يوزّع الفرص على أصدقاء وأقارب. المسؤول الحقيقي يبني ثقة، يصنع بيئة عمل سليمة، ويعرف أن الكفاءة ليست «صفة إضافية» بل العمود الفقري لنجاح أي مؤسسة.
ما نحتاجه اليوم في مؤسساتنا ليس تغييرات شكلية، بل ثورة في مفهوم القيادة:
قيادة تحترم الإنسان قبل الوظيفة، وتفتح الباب قبل أن يُطرق، وتنتصر للكفاءة لا للواسطات، وتؤمن أن أكبر إنجاز لها هو موظفٌ يشعر بالأمان والانتماء لوطنه وقائدة.
فحين تُدفن الكفاءة، تُدفن معها الدولة.
وحين يُهان الموظف، تُهان المؤسسة بأكملها.
وما بين مسؤولٍ متسلّط ومسؤولٍ عادل… تُكتب قصة وطن.
وأختم مقالي بكلمة توجيهيه لشباب الوطن؛ "أنتم الأمل الذي تُعاد به هيبة المؤسسات ويستقيم به الطريق. لا تراهنوا على الواسطة مهما لمع بريقها، بل راهنوا على أنفسكم وعلى ما تملكونه من قدرات ومهارات، فصاحب الواسطة قد يقف يومًا عاجزًا، أما صاحب الكفاءة فيبقى ثابتًا لا تهزّه المناصب ولا أصحاب النفوذ. واحرصوا على كرامتكم المهنية؛ فهي ليست أمرًا يُتسامح به، فالتنازل عنها مرة يفتح بابًا للتنازل ألف مرة. اختاروا قدوتكم بعقولكم لا بألقابهم، فالقيادة ليست منصبًا بل أثرٌ يتركه القائد فيمن حوله. ولا تخشوا قول الحق، فالصمت عن الظلم هو ما يمنحه مساحة ليكبر، وقول الحق بحكمة هو أول خطوة في طريق الإصلاح. اعملوا لتكونوا الكفاءة التي لا يمكن تجاوزها مهما سادت الواسطة، وابنوا أنفسكم حتى يصبح وجودكم ضرورة لا خيارًا. وإن وجدتم بيئة عمل تسمّم أرواحكم وتكسر عزائمكم، فاعلموا أن الخروج منها قد يكون انتصارًا أكبر من البقاء فيها. لا يغركم البريق الزائف للمناصب، فالقيمة ليست فيما تملكون، بل في الأثر الذي تتركونه. حافظوا على أخلاقكم واجعلوها أعلى من طموحاتكم، فنجاح بلا قيم هو سقوط مؤجّل، بينما النجاح الذي يقوم على المبادئ هو الذي يدوم. وواجهوا قبح الواقع بجمال الإبداع والتميّز والمعرفة، فالمؤسسات تتغير حين يتغير أبناؤها، وأنتم الجيل القادر على ذلك. وتذكّروا دائمًا أن الأوطان لا تُبنى بالواسطة، بل بالوعي، والإخلاص، والعمل، وأنكم الجيل الذي يستطيع أن يعيد البوصلة إلى مكانها الصحيح" .

