ابو رحمه يكتب من غزة: زيارة البابا دبلوماسية روحية في زمن التحولات

{title}
أخبار الأردن -


بقلم:د. سعيد محمد ابو رحمه

تندرج زيارة البابا إلى تركيا ولبنان ضمن سلسلة من التحركات الدينية التي تحمل أبعادًا سياسية وثقافية وروحية في آنٍ واحد، خاصة في ظل تصاعد التوترات الإقليمية، واستمرار تداعيات الحروب، وتنامي خطاب الكراهية والتطرّف. ويبدو أن الفاتيكان، عبر هذه الزيارة، يسعى لترسيخ مفاهيم جديدة للمصالحة والعيش المشترك، وإعادة تموضع المسيحية في الشرق ضمن خطاب جامع لا يقف على خطوط الانقسام الطائفي أو السياسي.
كانت أبرز محطات البابا في تركيا تلك التي تمحورت حول المصالحة المسيحية–المسيحية، خاصة مع الكنيسة الأرثوذكسية. وقد حملت اللقاءات هناك دلالات عميقة في مسار تقارب الكنيستين الكاثوليكية والأرثوذكسية بعد قرون من الانقسام، منذ الانشقاق الكبير عام 1054. فاللقاء مع بطريرك القسطنطينية برثلماوس الأول لم يكن مجرد بروتوكول بل حمل رمزية عالية، تعكس تطلعات الفاتيكان لتوحيد الصف المسيحي العالمي في مواجهة التحديات الجديدة، سواء في الشرق أو الغرب.
تركيا رغم كونها دولة ذات أغلبية مسلمة، تمثل رمزية تاريخية باعتبارها الأرض التي شهدت ولادة بيزنطة المسيحية، وهي تحافظ على مواقع ذات قيمة تراثية دينية للطوائف المسيحية. زيارة البابا لها رسالة مزدوجة: دعم الوجود المسيحي في الشرق، والسعي نحو مصالحة بين الكنائس تعزّز حضور المسيحية كقوة ناعمة في السياق الجيوسياسي.
على العكس من تركيا، جاءت زيارة البابا إلى لبنان محكومةً بحذر لافت. فقد امتنع عن لقاء الأحزاب السياسية، وحرص على أن تكون الزيارة مخصصة للقاء ممثلي الطوائف والأديان، مما يعكس إدراكًا لحساسية المشهد اللبناني المعقّد، وحرصًا على عدم الانزلاق في مستنقع التجاذبات الداخلية. وبهذا، تحوّلت الزيارة إلى رسالة روحية–اجتماعية أكثر منها رسالة سياسية.
الامتناع عن دعوة الأحزاب قد يُقرأ كنوع من عدم الرضا عن الأداء السياسي اللبناني، أو حتى كتعبير غير مباشر عن رفض تدويل الانقسامات الطائفية من بوابة الكنيسة. ويريد الفاتيكان أن يُعيد للبنان صورته كـرسالة (وفق تعبير البابا يوحنا بولس الثاني)، أي نموذج للتعايش بين المكونات الدينية، لا ساحة لصراعها.
الزيارتان تأتيان في توقيت حساس تشهده المنطقة:
- تراجع الوجود المسيحي في الشرق بسبب الحروب والتهجير (سوريا، العراق، فلسطين).
- صعود الإسلام السياسي وما ولّده من مخاوف لدى بعض المسيحيين من مستقبلهم.
- صراع الهويات الطائفية الذي مزق النسيج الاجتماعي في دول كثيرة.
- تنامي النفوذ الإيراني والتركي في بعض الساحات، وتأثيره على التوازنات الطائفية.
في هذا السياق يبدو أن الفاتيكان لا يريد أن يكون جزءًا من هذه الاستقطابات، بل يحاول أن يطرح بديلاً ناعمًا عنوانه الوحدة في التنوع والدين كجسر لا كحاجز.
مصالحة الكنائس لا تعني فقط توحيد الطقوس أو المواقف العقائدية، بل فتح باب الشراكة في القضايا الكبرى، ومنها:
- الدفاع عن الوجود المسيحي في الشرق.
- دعم قضايا العدل والحرية والكرامة.
- مواجهة التطرّف وخطاب الكراهية.
- إعادة إنتاج خطاب ديني جامع، يتجاوز الحساسيات التاريخية.
رغم الرسائل الإيجابية، تواجه هذه التحركات عدة تحديات منها النفوذ السياسي للطوائف في لبنان قد يعيد تسييس الخطاب الديني.وصعوبة تجاوز الانقسامات العقائدية بين الكنائس رغم النوايا الطيبة. ووجود ضغوط محلية وإقليمية على بعض الطوائف المسيحية للتحالف مع أطراف خارجية.
زيارة البابا للمنطقة ليست فقط رحلة دينية أو رعوية، بل محاولة لإعادة تعريف دور المسيحية في الشرق الأوسط ضمن مشهد متحوّل. إنها دعوة لمسيحيي الشرق للبقاء، وللمسلمين لإعادة النظر في الشراكة الحضارية، وللسياسيين لفصل الدين عن المحاصصة. وبين مصالحة الكنائس، وإعادة الاعتبار للتعايش، تتبلور رؤية الفاتيكان الجديدة للمنطقة: شرق أوسط لا تسيّسه الأديان، بل تحميه القيم الدينية.
بقلم: د  سعيد ابو رحمه

تابعونا على جوجل نيوز
البحر المتوسط لإدارة المواقع الإخبارية الالكترونية