الدباس يكتب: يا فرحة ما تمت..

{title}
أخبار الأردن -

 

محمود الدباس - أبو الليث..

كان المشهد يبدأ من تلك اللحظة.. التي كنتُ أبحث فيها عن نفسي بين هموم الوطن.. وهمومي الصغيرة.. التي تكبر كلما ضاق الجيب.. واتسعت الحاجة.. كنت أتهيأ لكتابة شيء يخفف عن صدري.. فإذا بالهاتف يهتز.. كمن يهمس لي بأن القدر لم يغلق أبوابه كلها.. وصوت صديقي المقتدر يأتيني دافئاً.. يحمل دعوة لحضور زفاف ابنه البكر يوم 18 الشهر.. وقال بعثت لك الدعوة على الواتس آب..

فتحت التطبيق.. حتى لا يظن صديقي أنني مهمل لدعوته.. وإذا بي أقرأ في نهاية الدعوة.. "حضوركم تشريف.. دون أي تكليف".. توقفت عند العبارة طويلاً.. فهي لم تكن زينة كلامٍ اعتدنا سماعه.. بل كانت باب نجاة لي من حرج كنت أغرق فيه بصمت.. فكل ما أملكه لإكمال الشهر.. 40 ديناراً بالكاد تكفي لضروراتي.. وصديقي الكريم لا يمكن أن أقدم له أقل من خمسين ديناراً كنقوط.. يليق بصداقته ومكانته.. فكيف يجتمع الحرج.. مع الرغبة في مشاركته أجمل أفراحه؟!.. لكن تلك الجملة كسرت الحاجز دون أن تطلب شيئاً.. وكأن الرجل كان يقرأ في قلوب الناس.. قبل أن يقرأ أسماءهم في قائمة الدعوات..

وحين جاء اليوم الموعود.. تجهزت كما يليق بفرح صادق.. لبست أجمل ما لدي.. ووقفت أمام المرآة كمن يستعيد شيئاً من كرامته.. قبل أن يستعيد شكله.. ثم انطلقت.. وفي الطريق شعرت بأنني ذاهب إلى فرحٍ.. لا يشبه الأفراح التي اعتدناها.. شيء داخلي كان يقول.. إن هذا اليوم سيتركني مختلفاً..

وصلت إلى المكان الذي كان يغص بالمدعوين.. فجلست حيث ساقني المجلس.. وأخذت أحيّي الوجوه التي أعرفها.. والتي لا أعرفها.. *ثم بدأت أرى ما لا يُنسى.. رأيت الفقراء والبسطاء.. الذين أعرفهم من الحارات القديمة.. بملابس تشهد على تعب الأيام.. ورأيت عمال الوطن بزيهم المعروف.. يجلسون بين الحضور.. لا على الأطراف*.. وكأن أهل الفرح أرادوا أن يقولوا بوضوح.. إن الفرح حين لا يفرق بين الناس.. يصبح أجمل من كل الزينة التي تملأ القاعة..

تناولنا الطعام.. وكان طعمه يشبه الامتنان لمشاركتنا فرحتهم.. أكثر مما يشبه الوليمة.. ثم جاءت الكنافة.. التي بدت كأنها إعلان ختام لحدث جميل.. وبعدها اصطف الجميع يباركون للعريس.. ويدعون لوالده بالصحة والسعادة.. وغادرت المكان وأنا أحمل بداخلي شعوراً غريباً.. شيئاً يشبه الرضا.. وشيئاً يشبه الحنين لزمانٍ.. كان الناس فيه أقرب لبعضهم من جيوبهم..

اقتربت من سيارتي وقلبي ممتلئ بامتنانٍ صافٍ لصديقٍ.. اختار أن يكون كبيراً بمعنى الكلمة.. كبيراً حين جعل الجميع جزءاً من بهجته.. دون أن يُثقل على أحد.. وكبيراً حين فهم أن الكرامة أثمن من النقوط.. وأن الفرحة حين تتسع للفقراء.. تكبر في عيون الأغنياء أصحاب المناسبة قبل عيونهم..

وفي اللحظة التي لم يبقَ فيها إلا أن أفتح باب سيارتي وأغادر.. دوّى صوتٌ أعرفه جيداً.. صوت أم الليث تقول من بعيد.. محمود إصحى.. بدك توصل بنتك لموقف الباصات في الدبابنة..

فإذا بالمشهد ينهار دفعة واحدة.. ويتحوّل كل شيء إلى حقيقة واحدة لا غير.. أن كل ما سبق.. لم يكن سوى حلمٍ جميل.. حلمٍ كنت أحتاجه لأتذكر.. كم نحن بحاجة إلى أولئك المقتدرين الذين يصنعون فرحاً يشبه الناس.. لا يشبه أرقام أرصدتهم..

يا فرحة ما تمت.. حتى في الأحلام.. لكن بعضها يترك في القلب نوراً.. كأنه يدعونا لأن نجعل ما نحلم به يوماً حقيقة.. أو شيئاً يشبه الحقيقة..

محمود الدباس - أبو الليث..

تابعونا على جوجل نيوز
البحر المتوسط لإدارة المواقع الإخبارية الالكترونية