التل يكتب: الحافر .. محاولة لإقتحام الوعي العربي في زمن هشاشته!!
محمد حسن التل
*رواية الحافر للأستاذ أحمد سلامة
عمل لا يكتفي بأن يُقرأ، بل يُختبر، فهي ليست حكاية تُروى بقدر ما هي محاولة لاقتحام الوعي العربي في لحظته الأكثر هشاشة، وكشف الطبقات المتراكمة التي صنعت هذا الوعي عبر تاريخ طويل من الهزائم والآمال المؤجلة والبحث العنيد عن معنى.. تبدو الرواية من ظاهرها نصًا عن رجل وامرأة ومدن متناثرة بين الشرق والغرب، لكنها في جوهرها نص عن الإنسان حين يجد نفسه في مواجهة المرآة بلا أقنعة،إنسان لا يحاول أن ينتصر، بل يحاول فقط أن يفهم أين انتهى به الطريق، ولماذا.
من خلال شخصية أمجد، يمضي الكاتب في رحلة تتداخل فيها الجغرافيا بالذاكرة، والمكان بالجرح، المدن التي يزورها البطل..—عمان، اسطنبول، طهران، بورصة، أصيلة لا تظهر كخلفيات سياحية، بل كأوعية للوعي، لكل واحدة منها أثرها على روحه وتفكيره، وكأنها محطات يتعرّى فيها الماضي ويشتدّ فيها الصراع الداخلي، فكل انتقال مكاني ليس انتقالًا جغرافيًا، بل طبقة جديدة تُضاف إلى ذاكرة لا تكفّ عن المطاردة ، حبّ قديم، خيانة مُلتبسة، سنوات ضائعة، وأصوات لم تهدأ رغم تغيّر الأمكنة ، لهذه الجغرافيا حضور كلياني يتكلم فيها المكان كما يتكلم الإنسان، وتختلط فيها الأزقة بأصوات السجناء، والجبال بملفات السياسة، والمقاهي بنصوص التاريخ.
نسرين، في مقابل أمجد، ليست مجرد حبيبة أو ندبة عاطفية، بل تجسيد لما يسميه الكاتب «ذاكرة الروح» ، حضورها متذبذب، لكنه ثابت في العمق تظهر وتغيب، لكنها لا تفارق نبرة السرد في بكائها المفاجئ، في ترددها، في ارتباكها، تنكشف هشاشة الإنسان الذي يعيش بين عالمين، عالم صنعه بيديه، وآخر يُفرض عليه من الخارج. دمعتها في السيارة لا تكشف ضعف امرأة، بل تفتح بوابة كاملة نحو علاقة يصعب اختزالها.. علاقة تتشابك فيها الغربة بالحب، والحنين بالخوف، والجرح بالهوية.
ولأن الرواية واعية لسياقها التاريخي والثقافي، فهي تضع الفرد في مواجهة العالم.
النقاشات التي تتناول الأندلس، والبحر والصحراء، وعلاقة العرب بالآخر، ليست زخارف فكرية، بل محاولات عميقة لفهم موقع الذات في خريطة الوجود ، حين يستخدم الكاتب المرأة الأوروبية لمساءلة أمجد عن تاريخ العرب ودورهم في العالم، فهو لا يختبر معرفة البطل بقدر ما يختبر هشاشته ، الردّ الذي يقدمه أمجد ليس انتصارًا للعروبة على الغرب، ولا استعادة لبطولة رومانسية؛ بل محاولة لإعادة الاعتبار لوعيٍ مُثقل بالصور النمطية، وجرأة في مواجهة النقد الخارجي بنقد داخلي موازٍ ، النص هنا ينجح في الإفلات من ثنائية الضحية والجلاد، مقدّمًا قراءة أكثر تعقيدًا للعلاقة بين الشرق والغرب.
وتبلغ الرواية إحدى ذُراها حين تطرح شيمة الخيانة بصورتها الوجودية لا العاطفية فقط. فالخيانة ليست فعلًا يُرتكب، بل حالة تتراكم، إنها خيانة الذات لنفسها حين تتنازل عن حقيقتها، وخيانة الذاكرة حين تُزيّف، وخيانة المجتمع حين يستسلم لسكوت طويل، وخيانة السياسة حين تُصادر الحياة والمعنى. ولذا فإن «الخيانة» في الرواية ليست حدثًا بل فضاء كامل، متشابك، يتوزع بين الأفعال الصغيرة والقرارات المؤجلة والكلمات التي لم تُقل. يقدّم الكاتب الخيانة كطبقة من طبقات الإنسان قبل أن تكون طبقة من طبقات الحكاية.
ويكتمل هذا البناء عبر لغة مشدودة وقوية، جملة تأخذ مداها حين تحتاج، وتختصر حين يشتدّ الوجع.
لغة شاعرية بلا تزيين، وفلسفية بلا تعقيد مصطنع، تنقل القارئ في لحظة من المقهى إلى المتخيّل، ومن مكالمة هاتفية قصيرة إلى جرح تاريخي واسع. الحوار مكتوب بذكاء يترك للقارئ مسافة للتأويل، فلا يفرض عليه رأيًا ولا يُملي عليه موقفًا ، شخصية أمجد، مثلًا، لا تُقدَّم كبطل ولا كضحية، بل كإنسان واقف على العتبة بين عالمين، يحمل ذاكرته كحمل ثقيل، ويحاول رغم ذلك أن يبحث عن نافذة صغيرة نحو معنى ما.
وفي أحد أهم رموز الرواية، يظهر «اليهودي» لا كعدو جاهز ولا كشيطان مكتمل، بل كموقع من مواقع السلطة العالمية ، اللقاء بينه وبين أمجد ليس مواجهة قومية، بل مواجهة بين ذاكرة شخصية وواقع سياسي يتجاوز كل الأفراد ، أمجد يأتي من سياق عربي مثخن بالخسارات، بينما يأتي الآخر من عالم القوة الذي يعيد رسم الخرائط ، وبين الاثنين تتجسد فجوة الوعي، ويظهر السؤال الكبير الذي يطرحه النص، هل يمكن للإنسان أن يظلّ مالكًا لقصة حياته وسط هذا الكم من القوى التي تتدخل في مصيره؟
كل هذه الخيوط تتجمع في نهاية المطاف لتقول شيئًا واحدًا ، إن الإنسان العربي كما يقدّمه أحمد سلامة محاصر بذاكرة لا تموت، وبمدن لا تشبه بعضها، وبأسئلة بلا إجابات، لكنه مع ذلك يواصل البحث ، وهذا ما يجعل الحافر رواية لا تقدّم الوهم، ولا تمنح بطلاً خارقًا، ولا تقترح حلولًا سهلة، بل تمنح القارئ فرصة نادرة أن يعود إلى نفسه وأن يفتّش في طبقاته، في خيباته، في أسئلته، في صورته هو قبل أن يسائل صورة الآخر عنه.
إن الحافر رواية تنحت أثرها ببطء، كما ينحت الحافر أثره في الأرض عميقًا، صامتًا، لكنه باقٍ. نصّ يذهب إلى أبعد من الحكاية ليعيد تشكيل علاقة الإنسان بذاكرته وتاريخه وروحه ولعل قوتها تكمن في صدقها في أنها تُكتب من داخل نزف حقيقي، لا من فوقه ، و أن الكاتب لا يقدّم إجابة جاهزة، بل يقدّم نصًا يستحق أن يُقرأ مرة، وأن يُعاد قراءته مرات.
لقد أحسنت الجامعة الأردنية ورئيسها الدكتور نذير عبيدات بأن احتضت حفل إشهار هذه الرواية الهامة وسلطت الضوء عليها ليس كإنجاز لأحد خريجيها المتميزين فقط، بل أيضا لأنها تمثل نمطا متميزا في النص والمعنى .

