الديري تكتب: عقوق الوالدين: دائرة لا تنكسر
حلا الديري
في زمن تتغيّر فيه الموازين وتتبدّل فيه الأولويات، ظهر لدى بعض الناس نوع من التهاون المؤسف تجاه قيمة راسخة مثل برّ الوالدين. بات العقوق عند البعض سلوكًا عابرًا، وكأن الأب والأم مجرّد تفاصيل في خلفية الحياة، لا تاريخًا طويلًا من التعب والسهر والتضحية.
تجد ابنًا يرفع صوته على والده، أو يصرخ في وجه أمه، وكأنه وُلد مكتملًا بلا حاجة لرعاية أحد، وكأن أهله لم يحملوه صغيرًا، ولم يرافقوا خطواته الأولى، ولم يسهروا على علاجه وتعليمه وتربيته. نسي سنوات من العطاء، وتذكّر لحظة غضب جعلته ينسى أبسط قواعد الإنسانية.
العقوق ليس موقفًا ولا لحظة مزاج، بل انهيار في القيمة التي تُبنى عليها البيوت. ومن المؤسف أن بعض الأبناء يظنون أن الصوت العالي قوة، وأن قلة الاحترام دليل شخصية، بينما الحقيقة عكس ذلك تمامًا. فالتربية التي لا تُثمر احترامًا، تعكس خللًا في الضمير قبل السلوك.
وليس الأمر صدفة أن الولد العاق غالبًا يتزوج امرأة تشبهه؛ امرأة لا تعرف قيمة أمها وأبيها، ولا تدرك معنى البرّ. ومع هذا التشابه القاسي، تنشأ عائلة “مكسورة القيم”… بيت بلا بر، بلا احترام، بلا امتنان. بيت يبدأ من أنانية وينتهي إلى أنانية أكبر، فتخرج منه أجيال تحمل الصفات ذاتها، لأن فاقد الشيء لا يعطيه، ولأن القيم لا تُورَّث بالكلام بل بالفعل اليومي.
وتدلّ التجارب الإنسانية، قبل الموروث الاجتماعي والديني، أن الحياة دائرة تعيد للإنسان ما يقدّمه. من يعقّ والديه لا يُستبعد أن يرى العقوق في بيته مستقبلًا، إن رُزق أصلًا بأبناء. ومن يبني علاقته مع أهله على القسوة، يجد هذه القسوة تحيط به من شريك حياته أو أولاده أو ظروفه. فالقلوب مرايا، وما تقدّمه لها يعود إليك في وقت ما وبطريقة ما.
برّ الوالدين ليس مجرد واجب ديني أو أخلاقي، بل هو أساس استقرار نفسي وروحي. من يبرّ يعيش بطمأنينة، ومن يعقّ يعيش بصراع دائم. فالوالدان باب خير لا يعوّض، ومن يغلق هذا الباب بيده، يضيّع على نفسه نورًا لا يُستعاد.
وفي نهاية المطاف، تبقى الحقيقة ثابتة مهما تبدّلت الأزمنة:
العلاقة مع الوالدين ليست خيارًا، بل هي المعيار الأول لأصالة الإنسان وعمق إنسانيته. ومن يفرّط بهذا الميثاق، يفرّط بنفسه قبل أي شيء آخر.

