الدباس يكتب: الراية.. بين قدسية الرمز.. وإشكالية الإلزام..

{title}
أخبار الأردن -

محمود الدباس - أبو الليث..


منذ فجر التاريخ.. كانت الراية أكثر من قطعة قماش مرفوعة على خشبة.. كانت اختزالاً لروح الأمَّة وكيانها.. يلتف حولها الجنود في ساحة الوغى.. ويُعَدّ سقوطها نذيراً بالهزيمة وضياع الأرض.. ولهذا ظلَّت محلّ الحماية بالأرواح.. لا بالأيدي فحسب.. ولعلّ جعفر الطيَّار حين قُطِعت يداه وهو يقاتل في مؤتة.. فضمَّ الراية إلى عضُدَيه حتى لا تسقط.. صار أسطورةً خالدةً تُروى في كل جيل.. وتذكيراً بأن الراية ليست مجرَّد رمز.. بل هي الوطن كلّه في لحظة تجسُّد.

من هنا نفهم عمق العلاقة بين الإنسان ورايته.. ونفهم أن العَلم حين يرفرف في الميادين الكبرى.. أو فوق صروح الدولة.. فإن القلب يرفرف معه.. ويستعيد إحساس الانتماء والفخر.. لذلك جاء القرار الأخير بإلزام كل مالك عقار.. بتركيب ساريةٍ ورفع العلم عليها.. كفكرة تحمل ظاهرها تعزيز الانتماء.. وإبراز الهوية الوطنية في المشهد العمراني اليومي.. لكنه في الوقت نفسه.. يفتح أسئلةً أعمق حول معنى الرمز.. وحدود الإلزام.. ونتائج التطبيق..

قد يبدو القرار للوهلة الأولى.. محاولةً لتجميل المدن.. وتوحيد المشهد.. تحت ظل الراية.. لكن رمزيَّة العلم.. لا تُصان بالإلزام.. بقدر ما تُصان بالوعي.. والاعتناء.. فالعلم الذي يُرفع في البيوت والشرفات بإرادةٍ صادقة.. أبهى بكثير من علمٍ يُثبَّت بحكم القانون دون روح.. والإلزام قد يحوِّل الرمز من مساحةٍ وجدانية جامعة.. إلى عبءٍ إداري.. يُضاف إلى قائمة التكاليف التي يئن منها الناس أصلاً..

ثم إن التجربة اليومية.. تثير تساؤلاتٍ عملية.. فإذا كانت مؤسسات حكومية.. ومؤسساتٍ ومدارس خاصة.. تهمل العلم.. حتى يغدو باهت اللون.. أو ممزقاً على ساريةٍ صدئة.. فهل نضمن أن يكون المواطن العادي.. أكثر حرصاً في بيته.. أو عقاره الخاص؟!.. وما قيمة القرار.. إذا تحولت الشوارع والأزقة.. إلى غابةٍ من السَّاريات المائلة.. والمتآكلة.. يعلوها علمٌ فقد بريقه وهيبته؟!.. إن الرمز الذي لا يُصان.. ينهار في نفوس الناس.. قبل أن ينهار في أعينهم..

إضافةً إلى ذلك.. للعَلم بهجته في المناسبات الوطنية.. حين يملأ الطرق والميادين.. ويُشعر الناس.. أن هناك حدثاً جللاً يستدعي الاحتفاء.. أما إذا اعتادت العين.. أن تراه في كل واجهةٍ.. وكل بناء.. فقد يفقد شيئاً من رهبة ظهوره الاستثنائي.. ويتحول من رمزٍ للفرح والفخر الجمعي.. إلى جزءٍ اعتيادي من المشهد العمراني.. لا يثير في النفس ذات الحماسة..

والسؤال الأهم.. هل وضعت الجهات المعنية آلية رقابة وصيانة واضحة؟!.. فالنصوص تحدَّثت عن مواصفات التركيب.. لكنَّها لم تُفصِّل في كيفية ضمان استمرار المظهر اللائق.. ولا في عقوبة مَن يترك ساريته تصدأ.. أو علمه يتمزَّق.. أو يبهت لونه.. ومن دون ذلك يصبح التطبيق ناقصاً.. ويتحوَّل القرار من وسيلةٍ لتعزيز الهوية.. إلى مصدر تشويهٍ وتلوث بصري.. ومفارقةٍ مؤلمة مع المعنى الذي يُفترض أن يجسِّده العلم..

إن رمزية الراية لا خلاف عليها.. لكن الطريق إلى صونها.. يبدأ من احترامها في المؤسسات أولاً.. ثم في الميادين العامة ثانياً.. ثم بترك مساحةٍ للناس ليُعبِّروا عن انتمائهم بإرادتهم.. لا بإلزامهم.. فالوطنية شعورٌ يزهر في القلوب.. قبل أن يُثبَت على الأسطح والجدران.. والعلم يظل عزيزاً.. ما دمنا نحمله بإرادتنا.. ونرفعه في وقته ومكانه المناسبين.. ونصونه من التلف والتشويه..

ويبقى السؤال معلقاً.. هل نحن بصدد قرارٍ سيجعل الراية أكثر حضوراً وهيبة.. أم أننا قد نكون أمام مشهدٍ مزدحمٍ بالساريات الصدئة.. والأعلام الباهتة.. فيفقد الرمز قدسيته.. بدل أن يتعاظم؟!..

إن العلم ليس عبئاً نعلِّقه على الساريات.. بل قيمةً نعلِّقها في القلوب.. فإذا أحسنا صيانته واحترامه.. بقي رمزاً يجمعنا.. بدل أن يتحول إلى شكلٍ يُرهق العيون..

 

تابعونا على جوجل نيوز
البحر المتوسط لإدارة المواقع الإخبارية الالكترونية