الدباس يكتب: حين يغدو الماضي وقوداً للجدل.. متلازمة ما بعد الكرسي..
محمود الدباس - أبو الليث..
كان آخر يوم له في مكتبه.. أشبه بمشهد ختامي لفيلم طويل.. خرجت حقيبته صغيرة على غير ما اعتاد من مواكب وملفات مترامية.. حتى الهواء في الممرات لم يبدُ كما كان.. هاتفه صمتَ فجأة.. والوجوه التي كانت تبتسم عند مرآه.. لم تعد حوله.. حين أدار ظهره للباب.. شعر أن الأضواء انطفأت.. وأنه عاد فرداً عادياً.. بلا حاشية.. بلا سائق.. وبلا موكب يفتح له الطريق.. هنا بدأ يختبر ما لا يتحدث عنه كثيرون.. متلازمة ما بعد السلطة..
هذه المتلازمة.. ليست مجرد حزن عابر.. إنها حالة نفسية تقترب من الاكتئاب.. حيث يفقد المسؤول إحساسه بالوزن الداخلي.. بعد أن كان وجوده مقترناً بالكرسي.. لا بالذات.. فيشعر أن العالم قد تواطأ على تهميشه.. وأنه تحول من مركز الأحداث إلى هامشها.. إنها لحظة مواجهة مع حقيقة كان يهرب منها.. أن النفوذ كان استعارة.. وليس جوهراً..
ومن رحم هذه الحالة.. يولد ما يسميه علماء النفس فقدان الهوية بعد المنصب.. حيث لا يعرف المسؤول من يكون.. بلا سيارة تنتظره.. وبلا سائق يتقدم خطواته.. فيبدأ بعضهم بالتشبث بأي خيط يعيد له الوهج.. وقد يفقد التركيز والاتزان.. فيتصرف تصرفات يظن أنها ستعيد له الألق.. فإذا بها تطيح بما تبقى من رصيده.. فيتحول تاريخه إلى مادة للسخرية.. أو التندر.. بدل أن يكون رصيد احترام متراكم..
وهنا تتقاطع النفس بالسياسة.. فالذي عاش في بيت عادي.. ثم وجد نفسه محاطاً بالامتيازات.. سيصعب عليه أن يعود كما كان.. فيبحث في دهاليز المال العام.. أو في شبكات المصالح.. عن وسيلة تؤمّن له استمرار تلك الحياة المترفة.. وكأن الفساد في هذه اللحظة.. ليس مجرد خيار.. بل محاولة يائسة.. للهروب من الفراغ النفسي الذي خلفه الكرسي..
لكن المسؤول الحقيقي.. هو الذي يدرك أن المنصب ليس هوية.. بل امتحان.. وأن الامتيازات ليست حقاً شخصياً.. بل أدوات لخدمة الناس.. فإذا غادر الكرسي.. عاد إلى نفسه بسلام.. لا محتاجاً لإعادة بناء هالة زائفة.. ولا مضطراً إلى العبث بتاريخه.. فالكرسي يرحل.. ويبقى أثر الروح.. وما زرعته من ثقة.. أو خيبة..
فهل نحن مَن نصنع المناصب.. أم أن المناصب هي التي تصنعنا؟!.. وهل حقًا يصبح اللجوء إلى الفساد.. الطريق الأقصر للمحافظة على هالةٍ زائفةٍ.. سرعان ما تنكشف أمام العيون؟!.. وهل الكرسي امتحان لرجولة المسؤول وصدقه.. أم مجرد قناع يُسقطه الزمن عند أول منعطف؟!.. وهل يعقل أن يُستبدل تاريخ من الخدمة.. بهوامش فساد رخيص.. فقط ليحمي صاحبه هالةً زائفة يعرف الجميع أنها ستسقط؟!..

