العتوم يكتب : خيانة الشريك : اتهامات إيرانية لروسيا بعد حرب 12يوما مع إسرائيل
تكشف تصريحات محمد صدر، عضو مجمع تشخيص مصلحة النظام، عن لحظة صدق نادرة في تقييم طهران لشريكها الروسي. اتهامه أنّ موسكو زوّدت إسرائيل بمعلومات عن مواقع دفاعية إيرانية خلال الحرب الأخيرة التي امتدت 12 يوماً – وحتّى في جولةٍ سابقة – يتجاوز سجالاً إعلامياً عابراً إلى طعنٍ في صلب “الشراكة الاستراتيجية”. فصدر لم يكتفِ بالإيحاء، بل قرن ذلك بانتقادٍ قديم–جديد: روسيا سلّمت أنظمة إس-400 لتركيا العضو في الناتو، وامتنعت عن منحها لإيران، وتماطل في ملف مقاتلات سوخوي-35، ثم خلص إلى توصيةٍ واضحة: الاستمرار بالعلاقة «لكن بلا ثقة عمياء». هذه العبارات، وقد صيغت على الهواء، أطلقت جدلاً داخلياً وخارجياً حول حدود ما يمكن لموسكو أن تقدّمه لطهران وما لا يمكنها – أو لا ترغب – أن تفعله لها.
تأتي الاتهامات في سياق حرب يونيو 2025 القصيرة والكبيرة معاً: قصيرة زمنياً، لكنها زلزلت بنية الردع الإيرانية عبر ضربات مركّزة طالت شخصيات ومنشآت، وردٍّ صاروخي إيراني لم يرق الى مستوى الفعل الإسرائيلي، قبل أن تُجمّد المواجهة على خط هدنة هش. توصيف «حرب 12 يوماً» لم يعد توصيفاً إعلامياً، بل صار إطاراً تحليليةً يعتمدها مراكز بحث ووسائل كبرى لتأريخ الجولة الأشد مباشرةً بين الطرفين منذ عقود. في هذا الإطار، تُحمِّل رواية صدر موسكو قسطاً من الخلل؛ فهي تُلمّح بشكل كبير إلى اختراق في «معادلة المواجهة » التي حكمت الاشتباك.
لكن تفكيك كلام صدر يقتضي الانتباه إلى أنه قدّم جزءاً منه ليس بصفته «تحليلا " بل «إثباتاً »؛ خاصة إن مكانته المؤسسية، وتزامن تصريحه مع مراجعاتٍ قاسية داخل طهران لأداء الدفاع الجوي، يمنحان قوله وزناً سياسياً. على الأغلب نحن أمام اتهام استخباري و رسالة ضغط على موسكو لرفع سقف التزاماتها، ورسالة داخلية تبرّر إعادة توزيع المسؤوليات عن ثغرات الرصد والحماية.
على خط السلاح، تُظهر الوقائع أن روسيا تُبقي إيران تحت «سقف تقني» محسوب. فقد مضت بتسليم إس-400 لتركيا منذ 2019 رغم كلفة ذلك على أنقرة داخل الناتو، بينما امتنعت مراراً عن بيع المنظومة لطهران، وهو قرار فسّره مراقبون بأنه مزيج من مراعاةٍ لإسرائيل وحسابات تصعيد مع الغرب. وفي ملف سوخوي-35، تعاقبت الإعلانات السياسية عن الشراء، لكن مسار التسليم ظلّ غامضاً ومؤجَّلاً قياساً بتسريباتٍ متفائلة. هذا النمط «التجزئي» في التوريد يوفّر لموسكو ورقة نفوذ دائمة على قرار القوة الإيرانية، ويقلّص احتمالات صدامٍ مفتوح مع تل أبيب.
أبعد من الصفقات، يوجد سجلّ عملياتي يُظهر أن روسيا وإسرائيل أدارا منذ 2015 آليات تنسيق وتفادي اشتباك في المسرح السوري، ما أتاح لإسرائيل تنفيذ ضربات متكررة ضد أهداف إيرانية–حليفة هناك من دون انجرارٍ إلى مواجهة روسية. حتى مع الأزمات الحادة – مثل حادثة إسقاط طائرة الاستطلاع الروسية عام 2018 – ظلّ خيط «إدارة المخاطر» قائماً. لذلك تبدو رواية «الميل الروسي نحو إسرائيل» التي استحضرها صدر امتداداً لبنية توازناتٍ سابقة وليست نشازاً ظرفياً.
تتضاعف حساسية اللحظة لأن الإشارات السياسية من طهران تجاه موسكو تتقاطع مع رسائل مستشار المرشد علي أكبر ولايتي على «إكس»، حين قرن حديثه عن الأمن القومي الإيراني بهاشتاغات «ألاسكا» و«القوقاز» و«الرجل ذو الألف وجه» في ذروة ضجيج قمة ترامب–بوتين في أنكوراج. الربط هنا ليس لغوياً فقط؛ فطهران تقرأ أي تقارب روسي–أميركي على أوكرانيا باعتباره قابلاً للتوسّع نحو تفاهمات جانبية على ملفات الشرق الأوسط، من سوريا إلى إيران نفسها، بما في ذلك تفاهماتٌ «صامتة» على حدود الحركة الإسرائيلية. هكذا تُستدعى ذاكرة «الصفقات الكبرى» لتفسير برودة موسكو حين يتعلق الأمر برفع منسوب الحصانة الدفاعية الإيرانية.
إذاً، ماذا تعني هذه الصورة لصانع القرار العسكري والسياسي والاستخباري الإيراني؟ أولاً، إن «التحالف» مع روسيا ليس تحالف مظلة أمنية، بل شراكة مصلحية غير متكافئة تُدار بالجرعات، وتُعرَّف حدودها عند عتبة العلاقات الروسية–الإسرائيلية وتقاطعات موسكو مع واشنطن. ثانياً، الاعتماد على الفجوات في الرادارات والمراحل الدفاعية بات ترفاً غير مسموح بعد يونيو؛ المطلوب تسريع مسارات «المنظومات السيادية» في الإنذار المبكر، والتكامل الشبكي بين الدفاع الجوي والصاروخي والإخفاء والخداع، وبناء عمقٍ تشغيلي موزّع يُصعِّب استهداف مراكز ثقل محدودة وفي تقديري من الصعب تحقيقه على لأسباب عديدة . ثالثاً، إعادة توجيه الدبلوماسية الأمنية نحو إغلاق المعابر التي استُخدمت في الجولة الأخيرة – جوّاً وبالوكالة – عبر تفاهماتٍ صعبة مع العراق وتركيا ووسطاء اقليميين ، لتقليل هامش المناورة على خطوط الاقتراب والتماس مع الجغرافيا الايرانية الشاسعة . رابعاً، تنويع مصادر التكنولوجيا والمواد الحساسة شرقاً، مع تجنّب الارتهان لمزوّدٍ واحد، بما يشمل نماذج «الدمج المحلي» ونقل المعرفة بديلاً عبر الهندسة العكسية رغم ضيق الوقت المتاح لايران.
يبقى البعد الإقليمي على درجة من الدلالة: الهاشتاغات التي استحضرت «القوقاز» تذكيرٌ بأن المجال الحيوي شمال إيران لا يقل خطراً عن الجبهة الغربية. أي تفاهم روسي–تركي–غربي على ترتيباتٍ هناك قد يرتد مباشرةً على توازنات الحدود، ومسارات الطاقة، وأمن الأقليات، ونوافذ التسلّل. ومع قمة ألاسكا التي لم تُنتج تسويةً واضحة في أوكرانيا، فإن موسكو ستستمر – على الأرجح – في توظيف أوراقها الشرق أوسطية للمقايضة، ما يعني أن «ثمن» كل ترقيةٍ دفاعية لإيران سيزداد تفاوضاً وتأجيلاً.
الخلاصة أن كلام محمد صدر ليس خروجاً على النص بقدر ما هو تلخيصٌ لنصٍ أطول: روسيا شريك مهم، لكنها ليست ضامناً، وهي تمارس توازناً دقيقاً بين احتياجاتها العسكرية في أوكرانيا، وخيوطها مع إسرائيل، ورافعات نفوذها في الإقليم. وبقدر ما يشي هذا بإمكانات صدامٍ سياسي–إعلامي بين الحليفين، فإنه يدفع طهران إلى صيغةٍ أكثر واقعية: لا قطيعة ولا تبعية، بل إدارة علاقة «محسوبة» تُبنى على تعاقداتٍ مُحدّدة، وموانع تقنية ذاتية، ومجال مناورةٍ أوسع مع أطراف أخرى، لأن دروس حرب الـ12 يوماً تقول إن الفجوة الأخطر ليست بين صديقٍ وعدو… بل بين توقّعاتٍ مرتفعة وحقائق القوة على الأرض.

