البراري يكتب: متاهة المشرق وتصريحات نتنياهو
حسن البراري
أتابع يوميا الصحف العربية والأجنبية وأمضي وقتًا طويلا في قراءة ما يكتب. ويخيل لي أحيانا، بل غالبا، وأنا أتنقل بين عناوين الأخبار القادمة من فلسطين ولبنان وسوريا أننا يسير في متاهة ذات جدران متحركة، وكلما اهتدينا إلى مخرج انغلق علينا الطريق مرة أخرى.
فلسطين تشتعل على الدوام، ولبنان يترنح بين هدنة هشة وانفجار مؤجل، وسوريا غارقة في صراعات لا يبدو لها قرار. في قلب هذه الفوضى، يخرج علينا نتنياهو بتصريحات يوزعها كما يوزع لاعب الشطرنج المحترف قطعه على رقعة الشطرنج بدقة وبحسابات مسبقة لا ليستفز الفلسطينيين وحدهم بل للتلاعب بالجوار بأسره.
كيف نرد على نتنياهو؟
الرد المطلوب على هذه التصريحات يستلزم موقفًا عربيًا صلبًا كصلابة سور الصين العظيم، غير أن هذا الجدار الذي نتمناه سقط كما هو جدار برلين الذي لم يبق مه سوى أجزاء بسيطة للذكرى نراها كلما زرنا مدينة برلين. أسباب انهيار الجدار العربي باتت مفهومة للجميع ولا داعي للخوض بها في هذه العجالة، فالمستمع العربي حفظها كما يحفظ الأناشيد المدرسية.
أما على الصعيد الشعبي، فالانقسام سيد الموقف! هناك من يصرخ من قلبه لأن الخطر يطرق الأبواب، وهناك من يصرخ لأن الساحة بالنسبة له هدف بذاته، لا وسيلة، وكأن الدماء والأرض مجرد خلفية لمشهد حزبي طويل المونولوج. أحدهم كتب بأن ترتيب المشهد الداخلي يأتي أولا، وآخر طالب بمظاهرات حاشدة، وأخر يذكرنا بمواقف اباءه وأجداده وكأن بقية الأباء والأجداد كانوا عملاء مثلا! كل ذلك سببه التيه ومحاولات بعض النشطاء لفت الانتباه لتحسين موقعهم في الشارع!
أما لبنان، فحكايته أشبه بمسرحية عبثية. إيران تتدخل بلا مواربة، وهذا هو علي لارجاني يأتي من طهران إلى بيروت محاولا إعادة النفخ في رئة حزب الله بعد أن أنهكتها المواجهة الأخيرة مع إسرائيل. وفيما يتساءل بعض العقلاء عن جدوى هذا التدخل الإيراني الصلف، يأتيك من يقول بثقة: "السلاح هو الضمانة". ضمانة؟ لقد شاهدنا هذه "الضمانة" في المواجهة الأخيرة، حين أعلن نعيم قاسم النصر فيما كانت صواريخ العدو تسرح وتمرح في سماء لبنان بلا رادع. لا اشتري كلمات علي لارجاني بأن بلاده لا تتدخل في لبنان، ولا أعتقد أنه يرى في اللبنانيين جميعا سوى رصاصًا في بندقية المرشد لمضايقة إسرائيل حتى لو تم تدمير لبنان عن بكرة أبيها، فلا صوت يعلو على صوت طهران التي "تتصدى" نيابة عنا لإسرائيل!
وهكذا نجد أنفسنا بين فكي كماشة: الصهيوني من جهة، والفارسي من جهة أخرى، كما بين مطرقة وسندان، أو كمن يهرب من الرمضاء إلى النار. فالاحتماء بأحدهما ضرب من الجنون السياسي، إذ إن العلاقة بينهما رغم الضجيج والحرب هي أقرب الى التخادم لا إلى صراع وجودي كما يحاول الإيرانيون والإسرائيليون أن يروجوا لنا. ويبدو أن لبنان هي الدولة المرشحة لاستعادة الوعي والانتصار لمنطق الدولة وهو خيار علينا دعمه. في النهاية، المتاهة باقية، والجدران تتحرك، أما نحن فنتأرجح بين جارين يتقنان لعبة المصالح، فيما يصر البعض على أن نختار بينهما، وكأن الاختيار بين فكي الوحش مسألة ذوق شخصي.
إن كان لنا أن نخرج من هذه المتاهة فعلينا أن نوجه البوصلة نحو حماية الأردن أولاً، فهو خط الدفاع الأخير عن أنفسنا وبيوتنا وأولادنا. وهذا لا يكون بالشعارات ولا بالاكتفاء بمقاعد المتفرجين أو المتربصين في الداخل، بل بالاستعداد المدروس، والتنسيق المحكم بين مؤسسات الدولة، وبث الروح في نفوس المواطنين بأن إسرائيل ليست قدراً مكتوباً، وأن قوتها لها حدود يرسمها الصمود والإرادة والعمل الجماعي. فالأوطان لا تحمى بالرهان على الآخرين، بل بالرهان على وعي أبنائها واستعدادهم ليكونوا الصخرة التي تتحطم عليها أحلام نتنياهو.
نصيحة لكل الأردنيين الشرفاء: لا تسمحوا للاعلام الخارجي ومنصات التضليل والتجييش أن تتلاعب بوعيكم، فأكثر شيء أوجعنا به غيرنا ممن اعتقدوا أن التلاعب بنا سهل وممكن هو وعينا والتفافنا حول الدولة كقيمة عليا.

