العتوم يكتب: معركة تصفية العلماء النوويين: إيران في مواجهة إسرائيل
د. نبيل العتوم
في ظهوري اليوم على قناة العربية الحدث، تناولتُ واحدة من أكثر المواجهات الاستخبارية حساسية بين إسرائيل وإيران، حيث يتقاطع العمل السري مع حرب الاغتيالات بين إيران وإسرائيل، بعد ان تحولت ساحات الصراع من الميدان العسكري المباشر إلى استهداف العقول العلمية التي تشكل العمود الفقري للبرنامج النووي الإيراني وتشعباته، في معركة مفتوحة عنوانها تصفية الكفاءات وإرباك الخصم.
فبعد موجة اغتيالات واسعة طالت أكثر من ثلاثين عالمًا نوويًا، بينهم شخصيات محورية في مجال تصميم الرؤوس الحربية وتطوير الصواريخ الباليستية...وجدت طهران نفسها أمام تحدٍ وجودي للحفاظ على شريانها العلمي والاستراتيجي. التسريبات الاعلامية كشفت أن إيران سارعت، عقب الضربات الإسرائيلية الأخيرة التي تزامنت مع مواجهة عسكرية استمرت 12 يومًا، إلى تنفيذ عملية إجلاء سرية واخفاء لعلمائها الناجين، حيث جرى نقلهم مع عائلاتهم إلى مواقع شديدة التحصين في طهران أو في مدن ساحلية شمالية، او حتى مناطق ذات قدسية مذهبية ضمن اقامات مؤمنة بحراسة على مدار الساعة. هذه الإجراءات لم تقتصر على توفير الحماية الميدانية، بل شملت أيضًا إبعاد العديد منهم عن واجهاتهم الأكاديمية والبحثية، واستبدالهم بأشخاص لا علاقة لهم بالبرنامج النووي، للتدريس في محاولة لتضليل أجهزة الاستخبارات الجامعات والمعاهد المعادية.
لكن التحدي الأكبر يكمن في أن إسرائيل لا ترى في هذه التحصينات سوى مرحلة مؤقتة، إذ تواصل العمل على ما تسميه "قوائم التصفية" التي تضم نحو مئة اسم من العلماء والخبراء الإيرانيين، تاركة لهم خيارين لا ثالث لهما: الاستمرار في العمل مع تحمل خطر الاغتيال، أو الانسحاب من المشهد. في المقابل، يبدو أن إيران أعدت العدة منذ سنوات لهذه اللحظة، عبر استراتيجية “النائب” التي تمنح كل عالم رئيسي واحدًا أو أكثر من البدلاء المدربين، يعملون ضمن خلايا صغيرة لضمان استمرار الأبحاث حتى في حال اغتيال أي عنصر أساسي.
الأخطر، أن بعض هؤلاء العلماء الناجين انتقلوا لتولي مواقع حساسة داخل منظمة الابتكار والبحوث الدفاعية (سبند)، حيث يعملون في مجالات تمثل قلب البرنامج النووي العسكري، هندسة المتفجرات ؛ والذي اتضح جزء منه خاصة بعد اكتشاف منشأة سمنان السرية لصناعة التريتيوم، وتصميم الصواريخ القادرة على حمل رؤوس نووية. هذا الدمج بين المعرفة العلمية والخبرة في تطوير منصات الإطلاق يجعلهم أهدافًا ذات أولوية قصوى في العمليات الإسرائيلية، التي لا تقتصر على العمل الميداني، بل تتداخل مع حرب إلكترونية متقدمة تهدف لاختراق البنية التحتية للبرنامج النووي وإرباك شبكاته البحثية.
إن ما يجري اليوم هو معركة متعددة المستويات، تتشابك فيها أدوات الاستخبارات مع عمليات الاغتيال، وتتقاطع فيها حسابات الردع الاستراتيجي مع سباق الزمن نحو امتلاك قدرة نووية. وفي هذا المشهد المليء بالغموض والكمائن، تبقى العقول العلمية الإيرانية هي ساحة المواجهة الحقيقية، بين طرف يسعى إلى حمايتها كأصل وذخيرة استراتيجية، وآخر يرى في تصفيتها أقصر الطرق لتعطيل مشروع نووي يعتبره تهديدًا وجوديًا.

