الأردن ومعركة السياسة والاستخبارات لمواجهة إسرائيل
د. نبيل العتوم
في ظل المشهد الإقليمي المتوتر، يواجه الأردن اليوم واحدة من أصعب مراحله منذ توقيع معاهدة وادي عربة، وهو يخوض معركة معقدة ضد مشروع إسرائيلي متكامل يسعى إلى فرض واقع نهائي لتصفية القضية الفلسطينية، مع تحميل المملكة أعباءً جيوسياسية وإنسانية جسيمة. من هنا تتعامل الدولة الأردنية مع إسرائيل من منطلق واضح وثابت، باعتبار الكيان المحتل عدواً ومصدر تهديد استراتيجي وربما وجودي لمصالحها العليا. غير أن هذا الوعي لا يترجم إلى اندفاع نحو مواجهة عسكرية مفتوحة، بل إلى بناء معادلة دقيقة تجمع بين الردع السياسي والاستخبارات الوقائية والتحشيد الدبلوماسي، مع الحفاظ على قدرة الرد العسكري حال استدعت الضرورة.
على الصعيد السياسي، ينشط الأردن في مسارين متوازيين؛ أولهما، استثمار شبكة علاقاته الدولية لاختراق العواصم المؤثرة في أوروبا والغرب، وتحويل الرواية الإسرائيلية من مجرد مشروع دفاعي إلى كيان توسعي يهدد الاستقرار الإقليمي برمته . وثانيهما، تثبيت خطوط حمراء لا يمكن تجاوزها، خصوصًا فيما يتعلق بالضفة الغربية وملف القدس والمقدسات، مع رفض قاطع لأي صيغة تهجير للفلسطينيين، وهو ما عبّر عنه خطاب جلالة الملك بوضوح عبر "اللاءات الثلاث"، التي تمثل أساس الموقف الأردني، وتشير إلى استعداد حقيقي للمواجهة إذا تم انتهاكها.
على المستوى الاستخباري، من المرجح ان الأردن بات يركز على إحكام الرقابة على حدوده، ومنع أي اختراق أمني أو تكنولوجي إسرائيلي، مع بناء قاعدة معلومات واسعة عن تحركات العدو في محيطه الجغرافي ، لا سيما في الضفة الغربية والجنوب السوري، وهنا ربما تتبع أجهزة الاستخبارات الأردنية مبدأ الردع غير المعلن، من خلال إيصال رسائل مباشرة وغير مباشرة لإسرائيل مفادها أن أي انتهاك للسيادة الاردنية سيواجه برد حازم، وهو ما تجلّى في محطات عدة عندما تم إفشال محاولات تحرش أو عمليات سرية إسرائيلية لطالما لمحت لها الاردن .
يدرك صانع القرار الأردني أن تفجر الأوضاع في الضفة الغربية ليس حدثًا محليًا فحسب، بل سيكون له انعكاسات أمنية ، خصوصًا على الصعيد الداخلي والمناطق الحدودية، لذا من المتوقع ان تعمل أجهزة الاستخبارات الاردنية على توسيع شبكات الرصد البشرية داخل الضفة لجمع معلومات دقيقة حول تحركات العدو ونواياه، ومتابعة النشاطات التي قد تؤدي إلى إشعال الفوضى أو تهجير السكان. بالتزامن مع ذلك، يُرفع مستوى التنسيق والاتصالات مع السلطة الفلسطينية والفصائل المعتدلة بهدف خلق "خطوط أمان" تمنع انزلاق الوضع نحو انفجار شامل تسعى إسرائيل إليه.
في الجنوب السوري، تنظر اجهزة الاستخبارات الأردنية إلى المنطقة كساحة حساسة، حيث تُعتبر محاولات إسرائيل تثبيت نفوذ أمني أو لوجستي هناك تهديدًا مزدوجًا؛ فهي قد تفتح ممرات لتهريب السلاح أو المخدرات، وتوفر نقاط ارتكاز لعمليات التجسس على العمق الأردني. لمواجهة ذلك، توظف الأجهزة مزيجًا من الاستخبارات الفنية لمراقبة التحركات الجوية والأرضية والاستطلاع والمسح ورصد للاتصالات بشكل مكثف ، إلى جانب تنفيذ عمليات ميدانية غير معلنة تهدف لتعطيل شبكات التسلل والإمداد قبل وصولها إلى الحدود الاردنية .
المعروف ان إسرائيل تعتمد أحيانًا سياسة استنزاف الأردن عبر إشغال أجهزته الأمنية بافتعال أزمات متعددة متزامنة، لكن أجهزة الاستخبارات الأردنية من المحتمل انها تبنت هيكلًا منتظما يوزع وحدات الرصد والاستطلاع والتحليل بشكل مترابط بما يتيح التعامل مع الأزمات المتعددة دون استنزاف قدراتها. كما يعزز الأردن تبادل المعلومات مع شركاء إقليميين ودوليين، مما يوسع الصورة الاستخبارية ويخفف العبء عن الأجهزة المحلية.
ولا تقتصر الاستفادة من المعلومات الاستخبارية على الجوانب الأمنية، بل تستخدم أيضًا كأداة ضغط سياسي عبر عرض معطيات موثقة في المحافل الدولية عبر الدبلوماسية متعددة المستويات لكشف الممارسات الإسرائيلية، وإرسال رسائل غير معلنة تفيد بأن الأردن على دراية كاملة بخطط العدو، وأنه مستعد للرد الحازم إذا تم تجاوز الخطوط الحمراء.
بهذه الاستراتيجية المتكاملة، يبني الأردن جدار ردع استخباري فعال يواكب التصعيد الإسرائيلي على جبهات غزة والضفة والجنوب السوري، ويحول دون أن تصبح أراضيه ساحة لاستنزاف أمني أو سياسي. إنها معركة صامتة لكنها حاسمة، تُدار بذكاء وحنكة ، مع تثبيت مبدأ أن "لحم الأردنيين مُرّ"، ورسالة واضحة للإسرائيليين أن مواجهة الأردن ليست خيارًا سهلاً، وأن معركتهما الحقيقية تبدأ حين يظن الخصم أن المملكة بلا أوراق.

