استعدادا للحرب أم تمهيدا لما بعد المرشد؟.. مجلس دفاعي جديد في إيران

{title}
أخبار الأردن -

 

د. نبيل العتوم

في خطوة مفاجئة أعادت إلى الأذهان ملامح مرحلة الحرب العراقية الإيرانية، أعلنت طهران عن تشكيل مجلس دفاع وطني جديد، بتركيبة عسكرية وسياسية غير معتادة في هيكل الحكم الإيراني. القرار لم يكن تفصيلاً إدارياً عابراً بل كشف تحوّلاً استراتيجياً في بنية اتخاذ القرار الأمني والعسكري داخل إيران. المجلس، الذي يترأسه الرئيس مسعود بزشكيان ويضم رؤساء السلطات الثلاث وقادة القوات المسلحة ووزراء الأمن والدفاع والداخلية، لا يبدو كهيئة تنسيقية فحسب، بل كغرفة عمليات سيادية تُراد لها السيطرة المباشرة على مفاتيح الحرب والسلم.

توقيت تشكيل المجلس ليس معزولًا عن التطورات العسكرية الأخيرة، وتحديدًا الحرب الخاطفة مع إسرائيل في يونيو/حزيران الماضي، التي بدأت بضربة إسرائيلية نوعية طالت قيادات إيرانية، وتبعتها طهران بردّ جوي مكثّف باستخدام مسيّرات وصواريخ باليستية، حسب ما أعلنته. لكن رغم الضربة الإيرانية، كشفت المعركة عمق التحديات داخل القيادة الإيرانية نفسها؛ تباطؤ في اتخاذ القرار، تضارب في الصلاحيات، وتراكم البيروقراطية في لحظة كان يُفترض أن تُدار بمنطق الطوارئ العسكري، لا بمنطق مؤسسات الدولة التقليدية.

هنا برزت الحاجة إلى "عقل تنفيذي عسكري" يتجاوز الهياكل الرسمية البطيئة. مجلس الدفاع الجديد يبدو كأنه إعادة تشكيل لجهاز مركزي سري يوازي المجلس الأعلى للأمن القومي، وربما يتجاوزه في لحظة الحرب. لا يكتفي المجلس الجديد بصياغة الاستراتيجيات، بل يُعهد له بالإشراف الميداني، وتوجيه العمليات، ورسم السيناريوهات القتالية، وهو ما يعكس خشية صريحة من اختراق القرار العسكري، أو تعطيله بفعل التجاذبات السياسية أو الاغتيالات المركزة التي طالت قيادات عليا خلال السنوات الأخيرة.

على المستوى الاستخباري، هناك إشارات بأن المجلس الجديد هو في حقيقته "جهاز أمني مركزي" أكثر منه هيئة حكومية. فبعد أن تكررت الضربات الإسرائيلية الدقيقة في قلب إيران، من اغتيالات إلى تفجيرات في مواقع نووية وعسكرية حساسة، كان لا بد من مركز موحد للمعلومات والقرار، تتقاطع فيه الأجهزة الأمنية مع القيادة التنفيذية، دون المرور بالمسارات التقليدية. هذا التحول يعكس إدراكًا متأخرًا أن الحرب المعاصرة لا تُخاض بالسلاح فقط، بل بفعالية المعلومة، وسرعة القرار، ومرونة اتخاذه.

لكن لفهم هذا التحول، لا بد من التوقف عند البنية الاستخبارية الإيرانية نفسها، التي لطالما عانت من تعدد في الأجهزة، وتضارب في الصلاحيات، وازدواجية في مراكز القرار. فإيران لا تملك جهاز استخبارات واحداً، بل شبكة متداخلة من الأذرع الأمنية؛ على رأسها وزارة الاستخبارات (إطلاعات) التي تتبع للرئيس، واستخبارات الحرس الثوري التي تتبع للمرشد مباشرة، إضافة إلى أجهزة أخرى متخصصة كالاستخبارات العسكرية، وأمن الدولة، والاستخبارات القضائية، وحتى وحدات الأمن السيبراني شبه المستقلة. هذا التداخل لم ينتج فقط عن اختلاف المرجعيات السياسية والدينية، بل أيضاً عن رغبة متأصلة في "توزيع الثقة" وتجنّب احتكار السلطة الأمنية من طرف واحد، وهو ما يجعل النظام في ظاهره محصنًا، لكنه في الواقع مكشوف أمام الاختراق وضعيف التنسيق.

في حالات عديدة، أدى هذا التشظي إلى فشل في توقع الضربات أو منعها، بل وإلى تناقضات في روايات الأجهزة حول الحوادث الكبرى، ما أضعف مصداقية النظام داخليًا وخارجيًا. كما أن الولاءات داخل هذه الأجهزة ليست موحدة، بل تتوزع بين أجنحة المحافظين، والحرس الثوري، والمعتدلين، ما يجعل صناعة القرار الأمني عرضة للتجاذب السياسي، خاصة في ملفات حيوية كالعراق وسوريا ولبنان واليمن.

من هنا، فإن تشكيل المجلس الدفاعي الجديد يمكن اعتباره محاولة لتجاوز هذه الفوضى الاستخبارية، وخلق مركز قرار موحد يتعامل مع المعلومات الأمنية من مصدر واحد، ويضمن سرعة الاستجابة دون المرور بمراحل متعددة من التصديق أو التنسيق. لكن هذه الخطوة تحمل في طياتها خطرًا آخر: إذا لم يُعالج جوهر الأزمة البنيوية المتمثلة في تعدد الجهات النافذة، فإن المجلس الجديد قد يتحول إلى كيان موازٍ يزيد من الفوضى بدلًا من الحد منها، أو يُستخدم كأداة من قبل جناح معين لتعزيز سطوته على حساب الآخرين.

ولا يمكن استبعاد أن يكون تشكيل مجلس الدفاع الوطني أيضاً إجراءً وقائيًا تحسبيًا لسيناريوهات حساسة، مثل اغتيال المرشد الأعلى علي خامنئي أو حدوث فراغ مفاجئ في مركز القيادة العليا. ففي غياب شخصية خامنئي، التي تمثل المرجعية العليا والضابطة لكل الأجهزة العسكرية والأمنية، قد يُستخدم هذا المجلس كأداة لضبط القرار ومنع تفكك المنظومة أو وقوع تمرد عسكري داخلي، خاصة في ظل وجود أجنحة متنافسة داخل الحرس الثوري وأجهزة الاستخبارات، بعضها قد يسعى لتوسيع نفوذه في لحظة اضطراب كبرى.

التحذيرات الداخلية لم تغب عن المشهد؛ فمن خلال رصدنا لعملية صناعة القرار العسكري والأمني كنا نجد تضخيم المجالس الأمنية وتشعبها ما خلق دولة داخل الدولة، وقلل من قدرة المؤسسات التشريعية على محاسبة أصحاب القرار، خصوصًا في ملفات بالغة الحساسية مثل الأمن القومي، العلاقات الخارجية، والسياسات النووية. ولكن يبدو أن النظام الإيراني، تحت ضغط الحرب وهاجس الاختراق الأمني، قد اختار الاتجاه المعاكس: تعزيز المركزية الأمنية، ولو على حساب التوازن المؤسسي.

السؤال الجوهري يبقى: هل هذا المجلس استجابة ظرفية لصدمة المواجهة مع إسرائيل؟ أم هو حجر الزاوية في إعادة هندسة القيادة الإيرانية العسكرية والأمنية؟ في كل الأحوال، الرسالة واضحة: طهران قررت أن تُدير الحرب القادمة من غرفة قرار واحدة، خارج أعين السياسة، وتحت غرفة موحدة للحرب فقط.

تابعونا على جوجل نيوز
البحر المتوسط لإدارة المواقع الإخبارية الالكترونية