الدباس يكتب: الهيئات المستقلة.. امتيازات تتضخم.. وعدالة تُذبح
محمود الدباس - أبو الليث
حين نتأمل واقعنا الإداري.. لا يسعنا إلا أن نطرح السؤال بصوت عالٍ.. هل أنشئت الهيئات المستقلة عندنا لخدمة الوطن.. أم لخدمة أشخاص بعينهم؟!.. وهل نحن بصدد ممارسة إدارية متقدمة كما في الدول الحديثة.. أم بصدد صناعة محلية.. أُريد لها أن تكون باباً خلفياً للتنفيعات والترضيات؟!..
من حيث المبدأ.. فإن وجود هيئات مستقلة.. ليس بدعة أردنية.. بل ممارسة عالمية معروفة.. ولها جذورها ومبرراتها.. فالولايات المتحدة.. وبريطانيا.. ودول الاتحاد الأوروبي.. أنشأت هيئات لتنظيم قطاعات بالغة الحساسية.. مثل الطاقة.. والاتصالات.. والطيران المدني.. لأن هذه القطاعات.. تحتاج إلى مرجعية فنية محايدة.. لا تتغير بتغير الحكومات.. وقد أثبتت تلك الهيئات نجاحاً كبيراً في ضبط الأسواق.. وحماية المنافسة.. وفرض الشفافية.. بفضل قوانين واضحة.. وصلاحيات محددة.. ورقابة صارمة من البرلمانات وأجهزة المحاسبة.
لكن عندنا.. تحولت الفكرة.. من وسيلة لتنظيم القطاعات الحيوية.. إلى شبكة من الكيانات.. التي استُنسخت بعضها من الوزارات نفسها.. وصار وجودها يُثير أسئلة.. أكثر مما يقدّم أجوبة.. إذ لا يُعرف لها مثيل في الدول المتقدمة.. ولا تبدو الحاجة إليها واضحة.. سوى كونها بوابة جديدة لتوزيع المناصب.. وتفصيل العقود الخاصة.. وصرف الرواتب العالية.. بعيداً عن أنظمة الخدمة المدنية.. التي تقيّد التعيينات.. وتحفظ العدالة.
نعم.. هناك هيئات ضرورية ومطلوبة.. مثل هيئة تنظيم قطاع الطاقة والمعادن.. وهيئة تنظيم قطاع الاتصالات.. وهيئة الطيران المدني.. فهذه قطاعات متخصصة وحساسة.. ووجود هيئات مستقلة لإدارتها.. أمر منطقي.. ومتسق مع الممارسات الدولية.. لكن ما يثير القلق.. أن هذا النموذج الصحيح.. استُخدم كغطاء لابتداع عشرات الهيئات الأخرى.. التي استُحدثت بلا داعٍ.. وبلا مردود حقيقي.. سوى أن تكون مقاعد جديدة في سوق التنفيعات.
وهكذا.. صارت الهيئات المستقلة عندنا.. تُمارس دوراً مزدوجاً.. فمن جهة تُظهر نفسها كرمز للتحديث الإداري.. ومن جهة أخرى تتحول عملياً.. إلى أدوات للتحايل على القوانين واللوائح.. حيث يتم تعيين المقرّبين برواتب.. تفوق بأضعاف ما يحصل عليه موظف ينتظر على قوائم الخدمة المدنية سنوات طويلة.. ليظفر في النهاية بوظيفة.. لا تعادل جزءاً مما يتقاضاه أولئك..
إن أخطر ما في هذا الملف.. ليس فقط الكلفة المالية الضخمة.. التي تستهلكها هذه الهيئات من الموازنة.. وإنما الأثر الأخلاقي والمعنوي على المواطن.. الذي يرى العدالة تُنحر أمام عينيه.. ويشعر أن مستقبله محكوم بمعادلة الولاءات والمصالح.. لا الكفاءات..
أما على الصعيد الاقتصادي.. فإن تشتيت المسؤوليات بين الوزارة والهيئة.. يُربك المستثمر والمواطن على السواء.. فيتوه العميل بين جهتين.. بدل أن يجد مرجعية واحدة واضحة.. ما يعمّق البيروقراطية.. ويقتل الثقة في الجهاز الإداري.
إن إبقاء هذا الملف مفتوحاً بلا معالجة حقيقية.. لم يعد خياراً مقبولاً.. وإذا لم تُبادر الحكومة فوراً.. إلى إعادة النظر في جدوى هذه الهيئات.. ودمج ما لا ضرورة له بالوزارات الأم.. فإنها تكون قد ساهمت بوعيٍ.. أو بغير وعيّ.. في تكريس نظامٍ موازٍ للخدمة المدنية.. نظام قائم على المحسوبية والتنفيع.. لا على العدالة والكفاءة..
فالإصلاح الجاد يبدأ من هنا.. فهل تُقدِم الحكومة على خطوة شجاعة.. تُعيد الاعتبار للدولة ومؤسساتها.. أم نبقى ندور في حلقة مفرغة.. تُثقل كاهل الوطن وتُعمّق فقدان الثقة؟!..
فالوطن اليوم.. لا يحتمل مزيداً من الترقيع.. وترحيل المشكلات.. بل يحتاج إلى حكومةٍ صاحبة قراراتٍ جريئة.. وتُمسك بمشرط جراحٍ متمرس.. لتكون حلولها جذرية..

