العثامنة يكتب : من الإجراء الحكومي إلى عقل الدولة
مالك العثامنة
قرأت مؤخرا مقالا لافتا للدكتور بشار الصرايرة نُشر في موقع مدار الساعة، حمل عنوانا ذكيا: "من الخدمات الحكومية إلى الإجراءات الحكومية.. إعادة تصميم العلاقة بين المواطن والحكومة".
وهو عنوان ليس عاديا، بل يعكس رؤية عميقة نحو أحد أخطر التحديات المؤسسية في الدولة الأردنية: العلاقة بين المواطن والحكومة، وتحديدًا، كيف تُدار هذه العلاقة داخل مؤسسات الإدارة العامة.
ما فعله الدكتور الصرايرة في مقاله لا يُختزل في ملاحظة أو رأي، بل قدم تشريحا دقيقا لفكرة مغفلة في أغلب الخطاب الرسمي المدجج بتلميع الشكليات كنتائج وإنجازات، وهي أن المواطن لا يتعامل مع "الخدمة" الحكومية فقط، بل مع ما يسمى الإجراء الحكومي، ذلك المسار الطويل والمعقد الذي يبدأ من لحظة التفكير بالحصول على خدمة، ويمر بسلسلة طويلة من الجهات والوثائق والتواقيع، حتى ينتهي في كثير من الأحيان بالإحباط أو التأخير أو الاستنزاف.
في خضم التحولات الرقمية التي ترفعها الحكومة كشعار إصلاحي، يلفت الدكتور الصرايرة إلى أن التركيز على رقمنة الخدمات لا يجب أن يُغفل جوهر المشكلة: البنية الداخلية للإجراء الإداري. فليست المسألة في توفير تطبيق إلكتروني أو نافذة موحدة، بل في أن تكون الإجراءات نفسها بسيطة، منطقية، شفافة، ومترابطة.
واحدة من النقاط الجوهرية التي طرحها، هي الفرق بين تحسين واجهة الخدمة، وبين إصلاح عقل الإجراء، وهذا التفريق مهم، لأن الكثير من التحولات الرقمية في العالم العربي، ومنها الأردن، ركزت على الشكل دون المضمون. وهكذا نجد مواطنا يستخدم تطبيقا إلكترونيا حديثا، لكنه في الواقع يعيد تدوير ذات المعاملة القديمة، بذات التعقيد، فقط عبر شاشة حديثة.
تحدث الكاتب عن مثال حي: إجراءات إصدار رخصة البناء، والتي قد تبدو خدمة موحدة في الواجهة، لكنها في الحقيقة تمر بأكثر من 25 إجراء داخليا موزعة على 15 جهة، هذا الواقع المؤسسي لا يؤخر الخدمة فقط، بل يؤسس لفقدان الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة.
ما يدعو إليه الدكتور الصرايرة ليس تنظيرا أكاديميا، بل إصلاح جوهري يلامس جوهر العلاقة بين الفرد والدولة، ويؤكد أن التحول الرقمي الحقيقي يبدأ من الداخل، من تفكيك الإجراءات، وتحليلها، وإعادة بنائها على أسس الكفاءة، وتجربة المستخدم، والتكامل بين الجهات، وبمعنى أدق: لا بد من ثقافة مؤسسية داعمة للتغيير، تفهم أن النجاح لا يقاس بعدد التطبيقات الإلكترونية، بل بسرعة الإجراء، ووضوحه، وعدالته.
في مقالات كثيرة، يُستهلك الكلام عن التحول الرقمي والتحديث المؤسسي، لكن في هذا المقال، وجدنا صوتا عقلانيا خبيرا " للأسف خسرنا خبرته في الدولة"، يوجه النقاش نحو اللب لا القشور، وهذا ما نحتاجه في هذه المرحلة، ألا نخدر أنفسنا بالشعارات، بل نعيد النظر في المطبخ الإداري الذي يُنتج "الخدمة"!
ما طرحه الدكتور بشار الصرايرة يستحق أن يكون وثيقة تفكير استراتيجي في يد صانع القرار، لا مجرد مقال عابر في الصحافة، لأن إصلاح العلاقة بين المواطن والدولة لا يبدأ من واجهات الخدمات، بل من إصلاح عقل الدولة نفسه.

