تسونامي الاعتراف الأوروبي بالدولة الفلسطينية.. هل يعيد صياغة الاستراتيجية الأمنية الأردنية؟

{title}
أخبار الأردن -

 

د. نبيل العتوم

الاعتراف الأوروبي بدولة فلسطين، كما عبّرت عنه أربعة  دول مركزية هي فرنسا  النرويج وإسبانيا وإيرلندا، -الحبل على الجرار - لا يُقرأ فقط كتحوّل دبلوماسي في موقف العواصم الغربية من القضية الفلسطينية، بل هو في جوهره إعادة تموضع دولي أخلاقي وقانوني في وجه السياسات الإسرائيلية. غير أن هذا الاعتراف، رغم ما يبدو من رمزيته، يفتح موجة ارتدادات أمنية صامتة على دول الجوار، لا سيما الأردن الذي يقع في قلب التماس بين الجغرافيا ، والاستقرار .

من منظور استخباري استراتيجي، لا يمكن للأردن أن ينظر إلى هذا التطور بمنأى عن السياق الإقليمي المتسارع. فتسونامي الاعتراف لا يزعزع فقط صورة إسرائيل على الساحة الدولية، بل يعيد ضخ الحياة في المشروع الوطني الفلسطيني، ويعزز من سردية "حل الدولتين" التي طالما اعتبرها الأردن صمام أمان جيوسياسي لمعادلة " الدولة الفلسطينية مقابل الاستقرار الاقليمي ". هذا بحد ذاته يُحرج الرؤية الإسرائيلية القائمة على الهيمنة الكاملة، ويضع الأردن – بحكم دوره التاريخي في القدس والضفة – في بؤرة تنافس جديدة لا تخلو من التهديدات الاستراتيجية الخفية.

إسرائيل، التي اعتادت التحكم بالسرديات الإقليمية، ستنظر إلى هذا الاعتراف على أنه بداية عدٍّ تنازلي لعزلها، وقد تسعى لتوجيه ضربات استباقية لكل من تراهم داعمين غير مباشرين لهذا المسار. وفي هذا الإطار، من المرجّح أن تسعى تل أبيب لتضييق هامش المناورة الأردني عبر أدوات متعددة؛ يأتي في مقدمتها التشويش على الوصاية الهاشمية، ومحاولة تفعيل الجيوب الإعلامية الضاغطة، إضافة إلى محاولات خلق صدوع داخلية بأي شكل كان.اصافة إلى توظيف المتغير الامريكي الداعم لإسرائيل كعامل ضاغط على الأردن .

الجانب الأخطر يتمثل في أن هذا الاعتراف يعيد تحريك الأرض في الضفة الغربية عبر استغلال تصاعد التطلعات الشعبية نحو الدولة والاستقلال، بما يقابله من انسداد سياسي في فدرات القيادة الفلسطينية الرسمية، وتفكك أمني نسبي خاصة مع ترشح احتمالية التصعيد الإسرائيلي  في الضفة الغربية . ومع ارتفاع سقف الغضب الشعبي، فإن الضفة ستصبح أمام  سيناريو انفجار جديد، وربما خارج الحسابات التقليدية. وبالتالي ستجد الأجهزة الأمنية الأردنية نفسها أمام تحدٍ مزدوج: منع التسلل الأمني للفوضى من الغرب، واحتواء أي ارتدادات اجتماعية أو سياسية داخلية، خاصة مع تزايد زخم التعاطف الشعبي الأردني مع القضية الفلسطينية، في ظل .

لكن الأخطر من ذلك، هو أن تسونامي الاعتراف قد يفتح شهية بعض الدول لإعادة  التموضع على حساب الأردن،  فالتراجع الأميركي عن دعم غير مشروط لإسرائيل – ولو خطابياً – قد يشجع بعض الفاعلين الإقليميين على القفز إلى مقدمة المشهد الفلسطيني، خاصة إن شعروا بأن الدور الأردني بات مهدداً بالتحجيم أو الاستبعاد في ظل الضغوط الاقتصادية المتفاقمة التي تكبّل الحركة السياسية الأردنية على الصعيدين الاقليمي والدولي .

وفي هذا السياق، تبرز فرضية خطيرة: هل تلجأ إسرائيل إلى مغامرة إقليمية محسوبة تهدف إلى إشغال الأردن والمنطقة عن التحول السياسي الدولي الحاصل بفعل الاعتراف الأوروبي؟

الفرضية ليست بعيدة عن نمط تفكير المؤسسة الأمنية الإسرائيلية، التي ترى في الارتباك الإقليمي وسيلة ناجعة لتأجيل أو تشويش أي تحركات دولية تمس شرعيتها. مغامرة كهذه قد تأخذ أشكالاً متعددة: تصعيد على جبهة الجنوب اللبناني، أو استفزاز جديد في القدس، أو إشعال نقاط توتر داخل الضفة، أو حتى تحريك خلايا إرهابية  أو فصائل مرتبطة بها في جنوب سوريا لإعادة تسخين هذه الجبهة الحدودية، ومحاولة تسهيل مهمتها للتسلل إلى الاردن.. بما يضغط على القرار الأمني الأردني ويضعه في حالة استنزاف متزامنة من أكثر من اتجاه.

ولا يمكن فصل هذا الاحتمال عن دور المسؤلين الإسرائيليين الذي بدأوا مؤخراً بتسريب سيناريوهات وتلميحات عن تغيير "وجه الشرق الاوسط"و "تغيير قواعد الاشتباك" في أكثر من جبهة، في ما يبدو كجزء من تمهيد نفسي وتعبوي للرأي العام الداخلي، وتوجيه رسائل ردع إلى الخارج، وربما تشويش مقصود على الزخم الأوروبي المتصاعد لصالح الدولة الفلسطينية. وفي حال تحقق مثل هذا السيناريو، سيكون الأردن أمام اختبار دقيق: كيف يتعامل مع توتر إقليمي يجري على حدود مصالحه، دون أن يفقد توازنه بين ضرورات الأمن، والانخراط السياسي النشط في ملف الاعتراف  الدولة الفلسطينية الذي يتجاوز الحسابات الآنية إلى عمق الصراع على الهوية والشرعية والحدود.

وفي ظل هذه البيئة الدولية والإقليمية المتحولة، سيواجه الأردن مأزق الموازنة بين حلفه التقليدي مع واشنطن، ومزاج شعبي داخلي يميل للمحور الأوروبي – الأممي الداعم لحقوق الفلسطينيين. ومن هنا فإن الاستمرار في التموضع على الحياد سيكون أكثر صعوبة، لا سيما إن تحولت الاعترافات الأوروبية إلى موجة فعلية يتبعها تصعيد .

كل ذلك يفرض على الدولة الأردنية، وخاصة أجهزتها الاستخبارية، إعادة تقييم التموضع الاستراتيجي في الملف الفلسطيني، ليس من باب الدفاع عن "الوصاية" أو "الهوية"، بل من منطلق حماية الأمن القومي من هزات إقليمية مقبلة. وهذا يشمل إعادة هيكلة خطاب الدولة، وتوسيع أدوات التأثير داخل الضفة، وتحصين الجبهة الداخلية في وجه أي مشاريع إرباك أو تشويه أو تسلل.

بالمحصلة، فإن "تسونامي الاعتراف" ليس حدثاً عابراً، بل لحظة تحوّل استراتيجي شبيهة بزلزال طويل الأمد، قد لا تنفجر تداعياته اليوم، لكن ارتداداته ستقيس مدى جاهزية الدولة الأردنية وأجهزتها السياسية والعسكرية والأمنية  للمرحلة القادمة.

تابعونا على جوجل نيوز
البحر المتوسط لإدارة المواقع الإخبارية الالكترونية