العتوم يكتب : من يُطعم غزة حقًا؟ الأردن بين نار الميدان وسمّ الشاشات
د.نبيل العتوم
في زمن الجوع والخذلان، يسطع فعلٌ نبيل من بين ركام الحصار: الأردن، الذي لا يملِك منفذًا مباشرًا إلى غزة، يفتح نوافذ المساعدة على سماء اليأس، ويمد يده بما استطاع إلى خان يونس، حيث تبكي الأرض وأطفالها من شدة الجوع. ومع ذلك، لا تتوقف بعض الأبواق الإعلامية عن محاولات التشويه والتقليل، في مشهد بات مألوفًا حين تُزعجهم مواقف مستقلة وأصيلة مثل تلك التي يتخذها الأردن.
أحد مراسلي الفضائيات المغمورة كان نموذجًا لهذه الازدواجية الإعلامية المقيته، إذ نفى أولاً دخول أي مساعدات إلى غزة، ثم عاد – ادعى زورا وبهتانا انها مساعدات مقدمة من الأمم المتحدة ، ثم عاد وبدل بعد انتشار مشاهد الشكر والامتنان للأردن من داخل القطاع – ليطرح رواية جديدة توحي بأن من أدخل القليل قادر على أن يُطعم غزة كلها.. وكأنّ المطلوب من الأردن أن يتحمل وحده أوزار حرب لا يُشارك فيها، ويعوّض عن عجز العالم بأسره في مواجهة الكارثة السياسبة و الإنسانية.
ورغم قسوة هذه الاتهامات، لا يُستبعد أن تكون مثل هذه التصريحات، حتى وإن بدت مسيئة، انعكاسًا لحالة الإحباط والتوتر والارتباك، وربما نتيجة محاولات لتمويه الحقائق أو حرف الأنظار عن مسؤوليات أكثر مباشرة. فمَن يُمسك فعليًا بزمام القرار في إدخال المساعدات؟ من يفاوض على التهدئة؟ ومن يفتح المعابر أو يغلقها؟ الإجابة ليست في عمّان، بل في تل أبيب وغزة، حيث تتداخل السياسة والمساومة بالدم، وتُربط المساعدات بموازين التفاوض.
لكن، ورغم هذا الواقع المعقد، لم ولن يتخلَّ الأردن يومًا عن دوره، بل ظل وسيظل ثابتًا على نهجه القومي والإنساني بمشيئة الله تعالى. لم يشترط، لم يساوم، لم يتاجر. بل كان في مقدمة من تحرك ميدانيًا، حين قاد جلالة الملك عبد الله الثاني، القائد الأعلى للقوات المسلحة، وسمو ولي العهد الأمير الحسين، عمليات إنزال جوي بطائرات سلاح الجو الأردني لإيصال المساعدات إلى غزة تحت النار، متحدّين الحصار والمخاطر، ومؤكدين أن الموقف الأردني ليس خطابةً ولا رمزية، بل فعلٌ مباشر في الميدان. وفي الوقت الذي انشغل فيه البعض بالتأويلات أو توزيع الاتهامات، كانت القيادة الأردنية وجيشها يزرعون الأمل في سماء غزة وأرضها، ويُسجلون مشهدًا سيبقى محفورًا في ضمير الأمة.
وإن كان لا بد من كلمة حاسمة، فهي أن من يريد أن يزايد على مواقف الأردن، فهذا الميدان يا أبو حميدان. من أراد أن يُطعم فليتفضل، ومن أراد أن يداوي الجراح فليتحرك، أما الشعارات المشروخة، والاتهامات المجانية، فلن تُشبع جائعًا ولن تحرر أرضًا. الأردن في الميدان، لا في الجدل. بالأفعال لا بالشعارات. فمن كان لديه بديل، فليتقدم لا أن يتكلم.
إن موقف الأردن في غزة هو امتداد طبيعي لتاريخه في دعم الشعب الفلسطيني. دعمٌ غير مشروط، ومواقف تنبع من قناعة راسخة لا تبحث عن ثناء، بل عن إنقاذ الأرواح، وترسيخ حق الفلسطينيين بالحياة والكرامة والعيش بعزة وشرف . الأردن الذي قدّم الدم لأجل فلسطين، لا ينتظر شكرًا حين يُقدّم الطحين والغذاء والدواء والمستشفيات الميدانية .ويحتضن الجرحى لمداوتهم ، ولا يقبل أن يُصوَّر كعقبة أو متخاذل في وقتٍ يواصل فيه القيام بواجبه الكامل وسط صمت دولي وخذلان شامل.
إن محاولات التشويه والتشكيك بدور الأردن لن تنجح، لأنها تقف أمام حقائق ميدانية واضحة: شاحنات عبرت إلى غزة، مساعدات أُنزلت جوًا في ذروة النار، أطفال أُطعموا، وكرامة إنسانية صِيْنَت. أما من اختاروا أن يصمتوا أمام القاتل، ويتهموا من يُطعم الجائع، فليعيدوا النظر في بوصلتهم الأخلاقية.
في لحظةٍ من لحظات الحقيقة، سيسأل التاريخ: من أطعم غزة؟ من صمت؟ ومن تاجر؟ وسيكون الرد واضحًا، لا التباس فيه: الأردن، برجاله وقيادته، كان هناك… حيث الجوع، حيث الخطر، حيث الواجب.

