العتوم يكتب: جبهة داخلية بلا أحزاب.. واستحقاقات خطيرة تواجه الأردن
د.نبيل العتوم
رغم ما أُحيط به قرار الدولة بإغلاق ملف جماعة "الإخوان المسلمين" من هدوء قانوني وأمني، إلا أن تداعياته لا تزال تتفاعل في المشهد السياسي الأردني. ورغم أن الجماعة المحظورة حُلت قضائيًا وسُحبت منها الشرعية السياسية، فإن غيابها لم يُملأ، فقد كشف غيابها هشاشة البدائل. فالإسلاميون، رغم كل شيء، كانوا يملكون أدوات التعبئة والتنظيم، لكنهم في المقابل أخفقوا في تجديد خطابهم السياسي، وتورطوا في صراعات وأجندات، انقسموا فيها إلى أجنحة، تبادلوا الأدوار على حساب الوطن وأمنه، مما ضيّق هوامشهم الشعبية، وأضعف فرصهم في تقديم نموذج وطني جامع، الأمر الذي مهّد لعزلهم وخروجهم من المشهد.
وقد بدت آثار هذا الغياب جلية في الانتخابات النيابية الأخيرة، التي كشفت عمق الأزمة الحزبية في البلاد، و ظهر فراغ مقلق في البدائل ؛ فالأحزاب الوليدة، التي نشأت على عجل تحت مظلة قانون انتخاب جديد، بدت هشة بلا قاعدة اجتماعية، ولا رموز تتمتع من خلاله بالحضور أو المصداقية. أما البرلمان الناتج عنها، فامتلأ بوجوه بلا تجربة سياسية، ولا مؤهلات تمثيلية، فغابت الحيوية، وتلاشى الجدل، وتراجعت ثقة الناس بمن يُفترض أنهم صوتهم في الدولة.
في ظل هذا المشهد، لم تجد الدولة أمامها سوى اللجوء إلى خيار إعادة تدوير النخب، خصوصًا من المتقاعدين السياسيين والبيروقراطيين، وكأنها تبحث عن "وظائف تشغل بها كبارها"، أكثر مما تبحث عن تجديد سياسي فعلي. ومن هنا جاءت ولادة ثلاثة أحزاب رئيسية برعاية رسمية، لا بوصفها تجارب سياسية طبيعية، بل كمنصات جاهزة لتوزيع النخب القديمة عليها. وكأن الدولة أعادت فرز رموزها ورتّبتهم داخل هذه الأحزاب حسب الأقدمية والموقع والمكانة العشائرية والمناطقية، وحسابات من غير المفيد تناولها ...فبدأ التشكيل أشبه بـ"جدول توزيع للنفوذ" لا خريطة طريق للإصلاح، وكأننا بتنا أمام سباق داخلي منضبط لا تنافس سياسي حقيقي يُنتج قادة ويطرح أفكارًا جديدة.
لكن هذا البناء لم يصمد طويلًا. فجأة، ودون سابق إنذار، بدأ الانهيار: انسحابات مفاجئة داخل الأحزاب الوليدة ، خلافات مبكرة، وتراشق صامت داخل الكواليس وخارجه، ونداءات استغاثة وتحذير ، واستقالات ، وكأننا أمام مشهد درامي مثير يتفكك على الهواء مباشرة من مدن المملكة وبواديها ، ويكشف هشاشة البناء الحزبي الذي لم يتحمل أول اختبار جدي، لتتأكد هشاشة المعادلة من جديد.
هذا الواقع يفرض سؤالًا ملحًا: كيف يمكن للأردن أن يواجه استحقاقات خارجية خطيرة بجبهة داخلية غير متماسكة؟ فالدولة، التي تقف على تقاطع جيوسياسي خطير، وتواجه تحديات إقليمية غير مسبوقة، لا تملك رفاهية الاكتفاء بالهياكل الشكلية. فالدبلوماسية اليوم لم تعد تُدار فقط من وزارة الخارجية، بل باتت بحاجة إلى أذرع داخلية" دبلوماسية شعبية": أحزاب حقيقية قادرة على التعبئة، ونخب تمتلك شرعية اجتماعية، وخطاب وطني جامع يلتف الناس حوله في الأزمات والملمات.
من دون ذلك، ستبقى السياسة تراوح في مكانها، وسيتحول البرلمان إلى صندوق بريد أنيق، يتلقى الرسائل لكنه لا يملك الرد عليها، وتغيب عنه القدرة على ترجمة التحولات إلى خيارات وطنية تحفظ الأمن وتُشرك الناس في القرار.

