غنيمات يكتب : رسالة إلى دوائر القرار في قضية "كحول الميثانول"
طلال غنيمات
في حضرة هذه الفاجعة التي حصدت أرواح تسعة مواطنين وألقت بظلالها الثقيلة على أسرٍ وأحياءٍ بأكملها، لا يملك الرأي العام إلا أن يطرح سؤالًا يلامس الضمير، إلا وهو: أين كانت الدولة حين تسلّل كحول الميثانول القاتل إلى السوق؟... إنه سؤال لا يكتفي بتقليب أوراق اللوم المباشر، وإنما يغوص عميقًا في بنية المسؤولية الأخلاقية لمؤسساتٍ وُجدت أصلًا لحماية الحياة قبل الحسابات والأرباح.
مسؤولية وزارة الصناعة والتجارة تتسع – أخلاقيًا ووظيفيًا – لتشمل بناء منظومة رقابية حقيقية تتابع سلسلة الاستيراد والتصنيع والتوزيع بصرامة لا تتيح للسموم موطئ قدم، حتى وإن جرى ترويجها عبر قنوات غير مشروعة لكنها متوقعة في واقع يعرف الجميع خباياه، فالسوق الموازي صار واقعًا راسخًا يفرض استعدادًا يقظًا لا يكتفي بردّ الفعل.
أما المؤسسة العامة للغذاء والدواء، فإن مسؤوليتها الأخلاقية تتجاوز حدود اللوائح والتصاريح المكتوبة، لتتجلى في الرقابة الاستباقية المتواصلة من جانب، وفي إخضاع المنتجات لتحاليل مختبرية دورية من جانبٍ آخر، الأمر الذي سيُغلِق الباب أمام الغش التجاري الذي طالما وجد ضالته في أي تراخٍ أو ثغرة، إذ أثبتت الوقائع أنّ مجرد سنّ القوانين لا يكفي ما لم تُرافقه يقظة دائمة وروح مسؤولية تسبق الكارثة لا أن تلحقها.
وفي قلب هذه المنظومة، تقف وزارة الصحة، ودورها الذي لا ينبغي أن يُختزل في إسعاف المصابين وإحصاء الجرحى بعد الكارثة، إذ يجب أن يمتدّ – بحكم المسؤولية الأخلاقية – وصولًا إلى بناء أنظمة إنذار مبكر تستند إلى مؤشرات علمية وميدانية، قادرة على رصد تحرّكات المواد الخطرة قبل أن تتحول إلى مصيدة موت جماعي، فضلًا عن دور الوزارة الحيوي في رفع منسوب الوعي الشعبي، وتحذير المواطنين بلغة صريحة لا تحتمل التجميل من خطورة استهلاك منتجات مجهولة أو مشبوهة.
وفي السياق نفسه، تأتي مؤسسة المواصفات والمقاييس بصفتها الجهة التي يُفترض أن تُجسّد خط الدفاع الأخير، بحكم صلاحياتها الفنية في فحص المنتجات وتأكيد مطابقتها للمواصفات القياسية، لكن هذه المهمة الأخلاقية تفقد معناها متى اقتصرت على إجراءات موسمية أو ردود أفعال لاحقة، بدلًا من أن تكون عملية دائمة ومؤسسية تعطي الأولوية المطلقة لحماية الأرواح.
إن السؤال الأكثر إيلامًا، والذي لا مفر من مواجهته، أما كان بالإمكان إنقاذ هذه الأرواح لو اتسمت الرقابة بقدر أكبر من الصرامة والجاهزية؟... إذ تظل قيمة حياة الإنسان – في النهاية – هي المعيار الأخلاقي الأسمى الذي تُقاس به كفاءة الدولة ومصداقيتها في عيون شعبها.
إن الإصلاح الحقيقي لا يبدأ إلا بالاعتراف بهذا القصور الأخلاقي أولًا، وإعادة بناء منظومة الرقابة برمتها وفق منظور وقائي يضع حماية الأرواح فوق أي اعتبار، ذلك وحده ما يعيد للدولة مكانتها كحامٍ لأرواح مواطنيها، قبل أن يصبح الموت خبرًا معتادًا يتوارى خلف الأرقام الباردة والتقارير الرسمية الجافة.

