" قانون التنفيذ الجديد: تحرير المدين أم تقييد الدائن؟ قراءة في مآلات العدالة المدنية "
بقلم: الدكتور حمدان عبدالقادر غنيمات
دخلت التعديلات الجديدة على قانون التنفيذ الأردني حيّز النفاذ، فاتحةً الباب أمام جدل قانوني واجتماعي واقتصادي لا يزال يتفاعل في أروقة المحاكم ومجالس القانونيين وصالونات الاقتصاد. فقد ألغت هذه التعديلات الحبس التنفيذي في غالبية القضايا المدنية المتعلقة بالديون، باستثناء حالات الاحتيال أو امتناع المدين عن السداد رغم مقدرته المالية، في توجه يبدو للوهلة الأولى إنسانيًا وحقوقيًا، لكنه في العمق يطرح تساؤلات عميقة حول التوازن بين طرفي المعادلة: الدائن والمدين.
لقد كان الحبس التنفيذي يشكل وسيلة ضغط رادعة منذ سنوات، لكن الممارسة أثبتت أنه في كثير من الحالات لم يكن يحقق الغاية المرجوة منه، خاصة حين يكون المدين معسرًا لا مماطلًا. وبدلًا من تحصيل الحقوق، كانت الدولة تحمّل نفسها عبء احتجاز آلاف المدينين في مراكز الإصلاح، وتفكيك أسرهم، وتعطيل طاقتهم الإنتاجية. ومن هذا المنطلق جاءت التعديلات لتكرّس فلسفة قانونية جديدة مفادها أن الحرمان من الحرية لا يجب أن يكون نتيجة لعجز مالي، وأن العدالة لا تقاس بعدد الأبواب المغلقة خلف القضبان، بل بمدى ما تحققه من إنصاف اجتماعي واستقرار اقتصادي.
لكن هذا التوجه، ورغم عدالته الظاهرية، أثار مخاوف مشروعة لدى آلاف الدائنين الذين رأوا في القانون الجديد تجريدًا لحقوقهم من وسائل التحصيل الفاعلة، وتحفيزًا غير مباشر للمدين على التهرب، في ظل محدودية بدائل التنفيذ وعدم تفعيلها بشكل مؤسسي كافٍ حتى الآن. فالإجراءات البديلة، من الحجز والمنع من السفر وتجميد الحسابات، ما تزال تواجه عقبات بيروقراطية، وضعفًا في أدوات الرقابة والتحري المالي، ناهيك عن بطء الدورة القضائية في التعامل مع قضايا التنفيذ، وهو ما قد يؤدي إلى ترسيخ شعور عام بغياب الردع، وانعدام الثقة بالسندات المدنية.
من الناحية الاجتماعية، شكّل إلغاء الحبس انفراجة لعشرات الآلاف من الأسر التي كانت مهددة بالتفكك، وأعاد الأمل للمتعثرين في العودة إلى سوق العمل وتحقيق الاستقرار، وهو أمر لا يمكن إنكاره أو التقليل من أثره الإيجابي. أما من الناحية الاقتصادية، فقد وُضعت المنظومة المالية في اختبار صعب، إذ باتت الجهات المقرضة، سواء كانت أفرادًا أو شركات أو مؤسسات، أكثر تحفظًا في تقديم التسهيلات الائتمانية، بعد أن تم سحب وسيلة الضغط الأقوى من بين يديها.
التحدي الأكبر اليوم لا يكمن في النص القانوني بحد ذاته، بل في مدى جاهزية البنية التنفيذية والقضائية لتطبيق هذا القانون بروح العدالة لا بروتين الإجراءات. فالتحول من الحبس إلى البدائل يقتضي وجود قاعدة بيانات مالية شاملة للمدينين، ونظامًا فعالًا للإفصاح المالي، وربطًا رقميًا حقيقيًا بين دوائر التنفيذ والبنوك والمؤسسات الرسمية. كما يتطلب الأمر وعيًا مجتمعيًا بأن السندات المدنية ليست مجرد أوراق، بل التزام قانوني له قوة إلزام لا تقل عن العقود الرسمية.
وفي ضوء ما تقدم، فإن السلطة التشريعية مطالبة بإعادة تقييم البنية الداعمة لهذا القانون، لا من حيث النصوص، بل من حيث الإمكانيات المرافقة له. فنجاح التشريع لا يقاس بنيّاته، بل بنتائجه على أرض الواقع. ومن هذا المنطلق، فإنني أوصي مجلس النواب الأردني، ولجانه القانونية، بما يلي:
ضرورة العمل على سن تشريع رديف يضمن تفعيل آليات التنفيذ البديلة بشكل فاعل وسريع، بما في ذلك تقوية الصلاحيات التحقيقية لدائرة التنفيذ، وإنشاء سجل وطني للملاءة المالية يضمن الشفافية والعدالة.
إعادة النظر في أدوات التحصيل المدنية وربطها بمنظومة عدالة رقمية تضمن الوصول إلى أموال المدين دون المساس بحريته، مع فرض عقوبات جزائية على كل من يتعمد إخفاء الذمة المالية أو يقدم بيانات كاذبة.
إطلاق حملة وطنية لتثقيف المواطنين بمضامين القانون الجديد، وحقوقهم وواجباتهم، لتفادي إساءة الفهم التي قد تؤدي إلى توسع حالات التهرب أو الانكماش الاقتصادي نتيجة فقدان الثقة.
وأخيرًا، فإن العدالة الحقيقية لا تنحاز للدائن أو المدين، بل تقف حيث يقف الحق. وما بين حق الإنسان في الكرامة، وحق الدائن في الاستيفاء، يجب أن تتحرك الدولة بتشريعات مرنة، مدروسة، ومدعومة ببنية قوية تضمن التطبيق السليم وحماية الثقة العامة في القانون

