الخضاونة يكتب : "من باريس إلى الأردن ... ثقافة مؤسساتية ... !"

{title}
أخبار الأردن -

 أ.د. أحمد منصور الخصاونة

في خضم الحديث المتجدد عن إصلاح المؤسسات والنهوض بأدائها، تظلّ الثقافة المؤسسية هي المحور الغائب الحاضر، الحاسم الصامت الذي لا يُرى في الخطط والاستراتيجيات، لكنه يُجسَّد في التفاصيل اليومية، وفي السلوك الإداري، وفي طريقة انتقال المسؤوليات وتراكم الخبرات.  وفي زمنٍ تزدحم فيه الشعارات وتتكرر فيه وعود "الإصلاح"، تتجلى الممارسات الرصينة في مواضع قليلة، لتدلّ على الفارق بين من يؤمن بالمؤسسة كفكرة جامعة، ومن يتعامل معها كمنصة لتجريب الذات أو تلميع الصورة.

لقد تشرفتُ بالعمل ، على مدى ستة أعوام، مع منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونسكو) في مقرها الرئيسي بالعاصمة الفرنسية في باريس منذ عام 2019 وحتى عام 2025، ضمن فريق عمل دولي متعدد الثقافات والخبرات ، كنت فيه العضو الوحيد ممثلًا عن المنطقة العربية. كانت تجربة غنية في مضامينها، عميقة في أثرها، تكشف لك عن جوهر الفارق بين من يعمل في مؤسسة تؤمن بالعقل الجمعي والذاكرة المؤسسية، وبين من يُلقي بنفسه في دوامة النرجسيات الإدارية التي تفتك بروح المؤسسة.

وإن كانت تلك التجربة قد بلغت أجلها رسميًا، إلا أن ما فاجأني – وأسعدني – هذا الصباح، هو تلقي دعوة من الفريق الجديد للمشاركة في أولى جلسات المجلس الجديد للعصف الذهني التي يعقدها لوضع خارطة طريق للمرحلة المقبلة، وهي دعوة تنطوي على أكثر من دلالة رمزية.

إنها ليست مجرد لفتة كريمة، بل هي انعكاس لروح مؤسسية ناضجة، تتعامل مع الأدوار باعتبارها حلقات متصلة في سلسلة العمل لا تنقطع بانتهاء المدة، بل تُصان وتُستثمر. دعوة  عكست روحًا عميقة من الإيمان بأن العمل المؤسسي لا يُقاس بتاريخ العقود، بل بعمق الأثر، وأن العقول التي أسهمت في البناء تبقى مرجعًا ورافدًا حتى بعد أن تغادر مكاتبها. إنه نموذج لثقافة إدارية تُعلي من قيمة الخبرة، وتؤمن بأن المعرفة التراكمية أساس القرار الرشيد، وأن المؤسسات لا تنهض إلا حين تحتفظ بذاكرتها، وتستدعي عقولها حتى بعد مغادرتها الرسميّة. وهنا، لا يسعني إلا أن أُحيّي هذه الثقافة التي يجب أن تكون القاعدة لا الاستثناء؛ ثقافة تستثمر في الإنسان والخبرة، وتفهم أن المؤسسات لا تنهض إلا إذا احترمت ذاكرتها، وصانت جهود من مرّوا فيها، واعتبرت كل عهد امتدادًا لما قبله لا نفيًا له.

ويا للمفارقة ... كم هو مؤلم – وربما مخزٍ –  أن تُقارن هذه الروح بما يسود في كثير من مؤسساتنا المحلية والعربية، حيث يصرّ المسؤول الجديد – في كثير من الأحيان – على إلغاء وتقويض كل ما أنجزه سلفه،  وكأنّه جاء ليبدأ من الصفر، لا ليكمل مسيرة بدأت قبله. لا لعيب موضوعي، بل بدافع فردي محض، رغبةً في إثبات الذات، حتى لو كان الثمن نسف جهود تراكمت عبر السنوات. أو إرباك فريق عمل يمتلك من المعرفة والخبرة ما لا يُعوَّض بسهولة.

وقد يبلغ العبث مداه حين تختزل "الإصلاحات" في تغيير الأثاث، أو حتى في السخافة التي تصل إلى حد تغيير اتجاه المكتب! تبدأ بحركة سطحية تبدو على شكل استبدال فريق العمل، فتبدأ بالسكرتيرة، ثم كل من يثبت عليه مدح المسؤول السابق، كأن المؤسسة إرثٌ شخصي، لا كيان عام، وكأن الذاكرة يجب أن تُمحى ليُعاد كتابة الحكاية من "الصفر" مع كل قادم جديد!

وهنا تكمن المأساة، حين يُفهم التغيير على أنه مجرد تدوير للمقاعد، أو إعادة تزيين الجدران، دون أن يكون هناك استنطاق حقيقي للواقع، أو فهم عميق لاحتياجات المؤسسة وأهدافها الحقيقية.

إنّ الإصلاح الحقيقي لا يُقاس بتبديل الأشخاص أو المظاهر، بل بترسيخ رؤية واضحة، وبناء ثقافة مؤسسية قائمة على الكفاءة والشفافية، وعلى احترام التاريخ المؤسسي الذي يُشكل رصيدًا ثمينًا لا يُمحى بمجرد تبديل مدير أو موظف.

إن تجاهل هذا الرصيد ومحاولة محوه يعيدنا إلى دائرة مفرغة، حيث تتحول المؤسسات إلى مسرح للعبث، وتضيع الفرص في التنمية والتطوير، ويبقى النجاح حكرًا على من يفهم أن الإصلاح هو عمل جاد مستمر، لا مجرد تمثيلية تُعزف على أنغام تغيير الأثاث والمكاتب.ويُصبح المشهد مألوفًا في مجالسنا وإعلامنا، حيث يصدح القادم الجديد بشعاراتٍ من قبيل "انتهى عهد التخبط والتخبيص !"و "نحن اليوم نبدأ من جديد!"، وكأن المؤسسة كانت غارقة في الظلام حتى بزغ "فجره". وكأنّ المجد يبدأ حين يصل، وينتهي برحيله!

ثم ما يلبث أن يُستبدل هو الآخر، ليأتي من يكرر اللحن ذاته، مع تغييرٍ طفيف في الكلمات، وتبدأ الدائرة من جديد ... دوامة من الهدم تحت لافتة "التغيير".

وهكذا، تدور المؤسسات في دوامة التأسيس الأبدي، يُمحى كل مشروع بمجرد تغيير المسؤول، وتُهدم كل بنية لمجرد اختلاف الهوى، وتُستبدل الكفاءات لأنّها "ليست من فريقه"، ويغيب السؤال الأهم: لمن نعمل؟ ألهوى المسؤول، أم لمصلحة المؤسسة؟ السؤال الذي لا بد أن يُطرح، لا بمرارة، بل بمسؤولية: متى نرتقي بثقافتنا المؤسسية إلى مستوى النضج الحقيقي، حيث يُصبح احترام ما أنجزه السابقون شرطًا للتقدم لا عائقًا، وحيث تُصان الذاكرة المؤسسية لا تُطمس، ويُبنى على الجهود لا يُعاد اختراع العجلة في كل مرة؟

فالمؤسسة الناجحة ليست تلك التي يلمع فيها اسم المسؤول، بل تلك التي تبقى صامدة بعد رحيله، وتبقى على علاقة معه، ومع كل من سبقوه، لأن بنيانها قام على تراكم الرؤى، وتبادل العقول، وتواصل الخبرات. وعندها فقط... نخرج من عباءة الأشخاص إلى فضاء المؤسسات، ومن نزعة الهدم إلى وعي البناء، ومن فوضى "التجديد الشعاراتي" إلى سكينة الاستمرار المنتج.

ولعلّ أولى خطوات الإصلاح تبدأ من هذه النقطة بالذات: أن نُربّي في مؤسساتنا ثقافة الوفاء للعقول التي بنت، وأن نُطيل عُمر الذاكرة المؤسسية، ونغرس في المسؤولين فكرًا يُدرك أن النجاح ليس في البدايات الصاخبة، بل في الاستمرار الهادئ المترسخ.

تابعونا على جوجل نيوز
البحر المتوسط لإدارة المواقع الإخبارية الالكترونية