الدباس يكتب: قراءة عميقة ومتأنية في جولة ترامب الخليجية.. ما لها وما عليها..
محمود الدباس - أبو الليث
حين تضيق العقول.. تتسع الأوهام..
وحين يُغيب المنطق.. يصبح الادعاء سيد المشهد..
في زمن تُنسج فيه الحكايات خلف شاشات بلا ضمير.. يبدو الصمت حكمة.. لكن فضحه أحياناً واجب..
فبعض الكذب.. لا يقتل بسيفه فقط.. بل بثرثرته أيضاً..
ففي خضم جولة بدا أنها اقتصادية في ظاهرها.. غير أنها سياسية في عمقها.. عاد دونالد ترامب إلى واجهة الأحداث الدولية.. من بوابة الخليج.. مستعيداً وهجه السياسي.. ومعيداً رسم ملامح علاقاته مع العواصم العربية.. التي طالما كانت حجر الزاوية في استراتيجيات واشنطن بالمنطقة.. الجولة التي بدأت بعناوين استثمارية ضخمة.. لم تكن محض بحثٍ عن أرباح اقتصادية.. بقدر ما كانت إعادة اصطفاف سياسي.. واستباق لملامح خارطة ما بعد بايدن.. وما بعد الفوضى الإقليمية الممتدة..
صورة ترامب وهو يعتلي سلم الطائرة باتجاه الخليج.. لم تكن سوى استعادة لصورة رجلٍ لا يهدأ في معاركه.. لكنه اختار هذه المرة ساحة مختلفة.. فبدل الخطاب الجماهيري.. أو التغريدة الصادمة.. جاء محمّلاً بصفقاتٍ.. ومبادراتٍ.. وإشارات.. تقرأها الرياض وأبو ظبي والدوحة كلٌ بلغتها.. لكنها تتقاطع جميعاً في أنها تفضّل الرجل على خصومه.. وتراه أقرب لفهم المنطقة وأقل إلحاحاً.. في فرض القيم الليبرالية.. وهو ما يجعل من استقباله بهذا الحفاوة.. ترجمة لموقف سياسي.. أكثر منه ترحيباً برجل أعمال..
فلم تغب غزة عن مشهد التصريحات.. وإن لم تكن حاضرة في جدول الزيارات.. فالرجل الذي لم تطأ قدمه أرض فلسطين في جولته.. أطلق من الدوحة ما يشبه بالونات اختبار.. حين اقترح تحويل غزة إلى "منطقة حرية".. تحت إشرافٍ أمريكي.. وكأن الخراب الذي تشهده منذ أشهر.. ليس كافياً ليستدعي موقفاً إنسانياً صريحاً.. بل يتحوّل إلى فرصة هندسية.. لتغيير الواقع السياسي والديموغرافي.. على مقاس التسويات المرفوضة شعبياً.. ورغم أن الاقتراح لم يحظَ بأي قبول دولي واضح.. إلا أن مجرد طرحه في حضرة رجال الأعمال.. والقيادات الخليجية.. يعكس نوايا مبيّتةٍ لإعادة ترتيب الإقليم.. بما يتجاوز الهدنة.. أو إعادة الإعمار.. فغزة -في هذا التصور- ليست سوى بوابة جديدة للتطويع.. ومفتاحاً إضافياً.. لصفقات تصاغ خارج حدود الدم والكرامة..
ولم تكن سوريا في هذه الجولة.. مجرد ورقة إنسانية.. تُلوّح بها واشنطن بوجه العقوبات.. بل كانت بوابة خلفية لرسائل إقليمية.. إحداها تُوجّه لأنقرة.. تلك التي مدت يدها طويلاً في الشمال السوري.. دون اتفاقٍ دوليٍ حاسم.. فحين يرفع ترامب العقوبات عن نظام دمشق.. ويُعيد تأهيله.. عبر صفقات مع الخليج.. فإنما يُعيد ترتيب الحضور على الأرض السورية.. ويُلمّح -وإن لم يُصرّح- أن مرحلة ما بعد الفوضى.. ستُكتب بأقلام جديدة.. وأن اليد التركية التي تغلغلت في ملفات اللاجئين والمعارضة.. قد تُقابل بجدار تفاهمات عربية-أمريكية جديدة.. لا مكان فيها للمغامرات الأحادية.. وربما يكون هذا التلميح بحد ذاته.. أقوى من التصريح..
التقارير التي واكبت الجولة.. أشارت إلى أن ترامب قد جمع قرابة 4 تريليونات دولار.. كقيمة صفقات واستثمارات.. تم التفاهم عليها مع قادة ورجال أعمال من الخليج.. وهو رقم يُعيد إلى الأذهان.. صفقات سابقة عقدها في زيارته الأولى للرياض عام 2017.. حينما عاد بما يقارب 450 مليار دولار.. لكنها هذه المرة.. جاءت في سياق أكثر تعقيداً.. إذ يُنظر إلى هذه الصفقات كخطوة استباقية.. لإعادة التموضع الأمريكي في المنطقة.. ولإعادة رسم علاقة المال بالسياسة..
لكن السؤال الذي يُطرح هنا.. لصالح مَن تُحشد هذه التريليونات؟!.. هل تصب في ميزان الهيمنة الأمريكية.. أم تُعيد رسم اقتصاد الخليج.. بما يخدم مصالحه الذاتية؟!.. الحقيقة أن الإجابة مركبة.. فالولايات المتحدة ليست بصدد تحصيل أرباح مالية مباشرة فحسب.. بل تسعى إلى تمتين نفوذها الاقتصادي.. بوصفه امتداداً لنفوذها السياسي.. فكل استثمار ضخم في الطاقة.. أو التكنولوجيا.. أو الدفاع.. هو في جوهره ربطٌ استراتيجي.. يضمن تبعية الأسواق.. وتوجيه السياسات.. وفي المقابل.. ترى دول الخليج في هذه الصفقات.. وسيلة لتحسين شروط الشراكة.. والخروج من عباءة التبعية القديمة.. نحو صيغة "التحالف الندّي".. القائم على المصالح المتبادلة.. إنها تريليونات تُصرف على السطح في مشاريع تنموية.. وتقنيات متقدمة.. لكنها تُخزّن في العمق.. كأدوات تأثير متبادلة.. فليست كل فاتورة تُدفع.. دليل خسارة.. كما أن ليست كل صفقة تُوقّع.. مؤشر على ربح كامل..
صحيح أن الأموال تُضخ في أمريكا.. وأن الأرقام تبدو كما لو أنها تصب في الخزائن الأمريكية وحدها.. لكن الصورة أكثر تعقيداً.. فالخليج -في هذه المرحلة- لا يشتري بماله مجرد أسهم.. أو مصانع.. أو طائرات.. بل يشتري موقعاً في هندسة العالم الجديد.. وضمانةً في زمن الاضطراب الجيوسياسي.. هو لا يموّل واشنطن من باب الكرم.. أو التبعية.. بل يبرم صفقة حماية طويلة الأمد.. حماية من تقلبات الداخل الأمريكي.. من تغيّر الإدارات والنهج.. من الارتداد المفاجئ نحو ملفات الديمقراطية وحقوق الإنسان.. من الفراغ الذي قد تملأه قوى منافسة كالصين وروسيا..
المصلحة الخليجية هنا.. ليست في العائد المادي وحده.. بل في العائد الاستراتيجي.. فحين يُسمح لأموال الخليج.. بأن تتموضع في مفاصل الاقتصاد الأمريكي.. تكون تلك الأموال قد تحولت من مجرد أصول مالية.. إلى أدوات نفوذ.. يُستعان بها لحجز مقعد في القرار الأمريكي.. أو على الأقل.. لصناعة اعتياد واشنطن.. على أن الخليج شريك لا غنى عنه في تمويل الداخل الأمريكي نفسه.. إنها لعبة مصلحة مزدوجة.. أمريكا تربح السيولة والتأثير.. والخليج يشتري الزمن.. ويشتري الصمت حين يحتاجه.. والمكان حين يُعاد ترتيب الكبار.. لكن هذا لا يتحقق تلقائياً.. فالعوائد الاستراتيجية.. تظل رهينة بحُسن التوظيف السياسي.. وإلا تحوّلت التريليونات.. إلى مجرد أوراق ملكية.. بلا أثرٍ.. ولا امتداد..
وما يلفت في هذه الجولة.. ليس فقط حجم الصفقات.. بل توقيتها ومضامينها.. ففي الوقت الذي يشهد فيه الإقليم إعادة فرز للمحاور.. وتحولات جذرية في أولويات العواصم العربية.. يأتي ترامب ليطرح نفسه كحليف نافع.. لا يُثقل الشركاء بالمحاضرات الحقوقية.. بل يمنحهم هامشاً أوسع للمناورة.. وهذا ما يفسّر ربما الحماسة.. التي لاقاها في الأوساط الخليجية..
أما عن سوريا.. فالواضح أن الصفقة تتجاوز الإغاثة.. أو إعادة الإعمار.. إنها إشارة سياسية من العيار الثقيل.. أن واشنطن -أو جناحاً منها على الأقل- مستعد لغض الطرف عن حقبة الأسد.. مقابل تفاهمات استراتيجية مع الخليج.. تعيد دمشق إلى الحظيرة العربية.. وتحد من تغوّل قوى إقليمية أخرى كإيران وتركيا.. وفي هذا الإطار تحديداً.. يمكن فهم رفع العقوبات.. على أنه جزء من تسوية أوسع..
وهنا تحديداً.. تبرز دلالة ما نشرته وكالة فرانس برس.. حول مساهمة سعودية بقيمة 100 مليون دولار.. لإعادة الإعمار في شمال شرق سوريا.. وهي خطوة ترافقت مع تقارير أخرى.. تحدثت عن نية المملكة سداد ديون سوريا لدى البنك الدولي.. ما يجعل من عودة دمشق جزءاً من تفاهمات عربية-أمريكية أوسع.. لا تخلو من رسائل لأنقرة وطهران معاً..
إنها جولة تكشف أكثر مما تُعلن.. وتصوغ ما بعد بايدن.. أكثر مما تُحاور الحاضر.. وتؤسس لما يشبه العودة الأمريكية.. لكن بثوب مختلف.. رجل أعمال يفاوض.. لا رئيساً يُملي.. وخليج يشتري السياسة بالمليارات.. لا بالمواقف.. وسوريا تعود إلى الطاولة.. لا من باب الجغرافيا.. بل من بوابة المصالح..
وقد تكون هذه الجولة -بكل رموزها ورسائلها- بداية رواية جديدة.. تُكتب في الخفاء.. قبل أن تُعلن على الملأ..

