تفاصيل مثيرة عن "سرقة القرن"
في مساء دافئ من يوم 25 أغسطس/آب 2024، كانت الأجواء هادئة في مدينة دانبري بولاية كونيتيكت الأميركية، حين انقلبت جولة بسيطة لزوجين ثريين بسيارتهما "لامبورغيني أوروس" إلى مشهد درامي، انتهى بمحاولة اختطاف مسلحة أثارت دهشة الشرطة والرأي العام، قبل أن تنكشف تفاصيل واحدة من أكبر عمليات سرقة العملات المشفرة في تاريخ الولايات المتحدة.
اختطاف مسلح في حي هادئ
سوشيل وراديكا شيتال كانا يبحثان عن منزل جديد في أحد أحياء دانبري الراقية، عندما اصطدمت بسيارتهما مركبة "هوندا سيفيك" من الخلف، بينما أغلقت شاحنة بيضاء الطريق أمامهما. ترجّل منها ستة رجال ملثمين، يرتدون ملابس داكنة، وسحبوا الزوجين بالقوة من السيارة، اعتدوا عليهما، وقيّدوهما بشريط لاصق، مهددين الزوج بمضرب بيسبول، في حين توسلت الزوجة إليهم، مشيرة إلى معاناتها من الربو دون جدوى.
نُقل الزوجان عنوة إلى الشاحنة وسط صدمة سكان الحي، ومن بينهم عميل فدرالي متقاعد، لم يتردد في مطاردة الخاطفين بسيارته، وإبلاغ الشرطة التي شرعت في مطاردة مثيرة انتهت بانحراف الشاحنة إلى غابة مجاورة وفرار أربعة من المهاجمين.
واستمرت عمليات البحث لساعات، انتهت بالقبض على أحد الخاطفين تحت جسر، والعثور على الآخرين في الغابة لاحقًا. أما الزوجان، فعُثر عليهما داخل الشاحنة، وهما مقيدان ومذعوران.
لكن السؤال الأهم الذي واجه المحققين كان: لماذا استهدف هؤلاء الشبان -الذين جاؤوا من ميامي بولاية فلوريدا وتتراوح أعمارهم بين 18 و26 عامًا– هذه العائلة بالتحديد؟ ولماذا لم يسرقوا السيارة الفارهة التي تركوها خلفهم؟ لم تكن هناك أي صلة معروفة بين الضحايا والجناة.
خيوط الجريمة الكبرى
بعد أيام من التحقيق، أبلغ مكتب التحقيقات الفدرالي (FBI) الشرطة بوجود صلة محتملة بين محاولة الاختطاف وسرقة ضخمة للعملات المشفرة وقعت قبل أسبوع، تبيّن لاحقًا أنها تقدر بنحو 243 مليون دولار، في واحدة من أكبر عمليات الاحتيال الإلكتروني في سوق العملات الرقمية.
الضحية كان مستثمرًا من واشنطن، تلقى رسائل مشبوهة على حسابه في "غوغل"، تلاها اتصال من شخص ادّعى أنه من فريق الأمن السيبراني في "غوغل"، ثم اتصال آخر من منصة "Gemini" للعملات الرقمية. تمكن المهاجمون من إقناعه بتحميل برنامج زُعم أنه لتعزيز الأمان، لكنه في الواقع منحهم تحكمًا كاملاً بجهازه، لتُسحب في دقائق آلاف الوحدات من "البتكوين" من محفظته الرقمية.
ورغم الطبيعة المجهولة لأصحاب العملات المشفرة، فإن جميع التحويلات تُسجل على "البلوك تشين"، مما أتاح لمحققين رقميين مستقلين، أبرزهم "ZachXBT" المعروف باسم "زد"، تتبع مسار الأموال المسروقة.
في الوقت الذي كان فيه "زد" بالمطار، بدأ على الفور تتبع المعاملات المشبوهة عبر أكثر من 15 منصة لتبييض الأموال. واستطاع عبر أدوات الاستخبارات مفتوحة المصدر تحديد محفظة تحتوي على مئات الملايين من الدولارات المشبوهة، ووجّه تحذيرًا عامًا على منصة "إكس" (تويتر سابقًا).
الخطأ القاتل.. وظهور الاسم
في أحد تسجيلات الشاشة المسربة، التي تلقاها "زد" من مصدر مجهول، ظهر اسم حقيقي في نافذة جهاز أحد الجناة: فير تشيتال، شاب يبلغ 18 عامًا، وهو نجل الزوجين اللذين تعرضا للاختطاف.
التحقيقات كشفت أن فير، المعروف بهدوئه وتفوقه الدراسي، كان قد بدأ مؤخرًا في التباهي بثروة مفاجئة، يقود سيارات فاخرة، ويقيم حفلات باذخة. وُجد أنه عضو في مجموعة هاكرز تُدعى The Com، تضم شبابًا من الغرب نشأوا في بيئة ألعاب مثل "ماينكرافت" و"رون سكيب"، وانخرطوا لاحقًا في الاحتيال الإلكتروني وسرقة العملات الرقمية.
عالم الجريمة من داخل الألعاب
تشير تقارير أمنية إلى أن منصات الألعاب باتت مدخلًا رئيسيًا للمراهقين نحو عالم الجريمة الإلكترونية، من خلال أسواق سوداء لبيع العناصر داخل الألعاب، مما هيأ بيئة لتبادل المهارات الاحتيالية.
في حالة "فير"، قادته هذه المهارات إلى الانضمام إلى "ذا كوم"، التي تخصصت في سرقة الحسابات، وغسل الأموال، وهجمات الفدية. وبتعاون وثيق بين المحققين الرقميين وFBI، تبيّن أن محاولة اختطاف والديه كانت تهدف على الأرجح إلى الضغط عليه لاستعادة الأموال المسروقة أو لابتزازه.
أسماء أخرى برزت خلال التحقيق، منها "مالون لام"، شاب من سنغافورة في العشرين من عمره، رُصد في أحد ملاهي لوس أنجلوس ينفق ما يزيد على نصف مليون دولار في ليلة واحدة. تتبع "زد" نشاطه عبر إنستغرام، وتمكنت السلطات من تعقبه والقبض عليه لاحقًا.
التحقيقات كشفت كذلك أن أحد الجناة استخدم منصة تبادل دون تشغيل "VPN"، مما سمح بتتبع موقعه واعتقاله، ليتكشف لاحقًا أن المجموعة استخدمت أدوات متطورة لغسل الأموال عبر منصات لا تطلب بيانات هوية.
النتيجة: جريمة رقمية بوجه واقعي
بحلول نهاية العام، كانت السلطات قد ألقت القبض على معظم المتورطين، بينما لا تزال الأموال المسروقة قيد التعقب. واعتبرت القضية مثالًا نموذجيًا على خطورة الجريمة الرقمية المعاصرة، التي قد تبدأ من لعبة وتصل إلى قاعات المحاكم الفدرالية.
وتعكس هذه القضية ملامح الجريمة الرقمية الحديثة: لا حاجة إلى السلاح، بل إلى جهاز كمبيوتر، واتصال بالإنترنت، ومعرفة بأدوات الاختراق. في المقابل، يعتمد التصدي لهذا النوع من الجرائم على التعاون بين الأجهزة الرسمية والمحققين الرقميين المستقلين، وتوعية المستخدمين بمخاطر الفضاء الإلكتروني.

