جبارة يكتب: بين تنمية المحافظات والمحافظة على التنمية: عقد تنموي جديد برؤية يقودها الشباب

الدكتور عبدالله ماجد جبارة
في بلدٍ كَبُرَ بحلمه على مساحته الجغرافية، إلا أنه ظلّ وفياً لرسالته رغم كل التحديات، تبرز قضية تنمية المحافظات اليوم كواحدة من أهم الملفات الوطنية التي تتقاطع فيها السياسة بالاقتصاد، والتنمية بالواقع الخدمي، واللامركزية بالعدالة المجالية. ورغم أن الخطاب التنموي ظل حاضراً بقوة في الأدبيات الرسمية والخطط الحكومية، إلا أن الفجوة بين المركز والأطراف ما زالت قائمة، ما يدفع إلى التساؤل: هل نحن أمام مسار فعلي لتنمية المحافظات، أم أمام محاولة للمحافظة على ما تبقى من مكتسبات تنموية لا تزال تعاني؟
هنا، وفي الوقت الذي يواجه فيه الأردن تحديات اقتصادية واجتماعية على امتداد الجغرافيا الوطنية، تزداد الحاجة إلى إعادة صياغة المشهد التنموي لا بمنطق الشعارات أو الحلول المؤقتة، بل ضمن إطار استراتيجي وطني شامل يعزز التوزيع العادل للثروات والخدمات والفرص في مختلف المناطق، سواء كانت حضرية أو ريفية أو مركزية، ويضمن تكافؤ الفرص ويعطي المحافظات ما تستحقه من تخطيط واستثمار.
لقد أصبح من الضروري إعادة تعريف التنمية، ليس كهدف اقتصادي فحسب، بل كأداة لتحقيق العدالة المجالية وضمان الاستقرار الوطني وتحصين الجبهة الداخلية. اليوم، باتت تنمية المحافظات عنوانًا لمطلب وطني يتجاوز الاحتياجات الخدمية إلى مطلب استراتيجي يجسد معادلة الحقوق والواجبات.
يعلم الجميع بأن الرؤية الملكية كانت وما تزال واضحة تجاه هذا الملف؛ فجلالة الملك عبد الله الثاني وولي العهد سمو الأمير الحسين بن عبد الله، أكدا مراراً أن تنمية المحافظات ليست خياراً بل أولوية وطنية تتقدم على الأجندات كافة. وقد عكست الزيارات الملكية المتكررة إلى المحافظات هذا التوجه من خلال الاستماع المباشر للمواطنين والوقوف على احتياجاتهم، ما يعكس التزاماً قيادياً صادقاً بوضع المواطن في قلب العملية التنموية.
في السياق ذاته، تواصل حكومة دولة الدكتور جعفر حسان السير على النهج الملكي، حيث سجلت زيارات ميدانية نشطة لرئيس الوزراء إلى عدد من المحافظات، في مشهد يعكس تحوّلاً نوعياً في الإدارة الحكومية نحو مزيد من القرب من نبض الشارع. إلا أن هذه الجهود، رغم أهميتها، تظل بحاجة إلى متابعة حثيثة من الوزراء المعنيين لضمان ترجمة الملاحظات إلى خطط واقعية قابلة للتنفيذ.
ما تزال التنمية في المحافظات تخضع إلى مركزية التخطيط، وتدار أحيانًا بمنهج “النسخ واللصق” دون مراعاة للفروق الدقيقة في التحديات والفرص. لذا فإن الدعوة لتبني “خطط استجابة محلية” خاصة بكل محافظة تراعي ميزتها التنافسية لم تعد ترفًا فكريًا، بل ضرورة تنموية تضمن المواءمة بين الاحتياجات الحقيقية والحلول المقترحة، وتمنح المجتمعات فرصة التعبير عن أولوياتها.
المطلوب اليوم هو هندسة شاملة للحوكمة التنموية تتجاوز ازدواجية المهام، وتعيد تعريف دور الوزارات بوصفها فاعلاً تنسيقيًا لا جهة تنفيذية معزولة، بحيث تتكامل جهود وزارات الشباب، والتخطيط، والعمل، والتنمية الاجتماعية، والزراعة، والاستثمار ضمن رؤية موحدة تدعم الاقتصادات المحلية.
ولا يمكن الحديث عن تنمية دون أن يكون الشباب الأردني في قلب المعادلة. فالشباب ليسوا مجرد فئة مستهدفة في البرامج، بل هم شركاء في التخطيط والتنفيذ والمساءلة والبناء. المطلوب اليوم هو إعادة تشكيل العلاقة بين وزارة الشباب ومنظمات المجتمع المدني المحلي والدولي على أسس شراكة استراتيجية تضمن تكامل الأدوار، وتفتح آفاقاً أوسع للتمكين الحقيقي، بعيدًا عن المبادرات قصيرة النفس أو الفعالية المحدودة.
إن الطاقات الشبابية لا تزال غير مستثمرة بالشكل الأمثل، خاصة في المحافظات، والمطلوب هو شراكات ذكية ومستدامة بين وزارة الشباب ومنظمات المجتمع المدني المحلية قبل الدولية، على أسس جديدة قوامها التنسيق وتكامل الأدوار، بدلًا من تكرار البرامج أو تنافسها. ولا يمكن تجاهل أهمية المجتمع المدني ومؤسساته كطرف فاعل في التنمية، فبعيدًا عن الدور التقليدي كمراقب أو منفذ للبرامج، فإن منظمات المجتمع المدني تُعد شريكًا عضويًا بحكم قربها من الناس وفهمها العميق لاحتياجاتهم.
من الضروري إعادة صياغة العلاقة بين الحكومة ومراكز صنع القرار من جهة، وهذه المؤسسات من جهة أخرى، لتكون علاقة ثقة وتكامل في الأدوار، لا موسمية أو بروتوكولية، بل علاقة تؤطرها المسؤولية وتُبنى على التخطيط طويل الأمد. هذا ما يخلق تشابكًا إيجابيًا بين وزارة الشباب ومنظمات المجتمع المدني بجميع أشكالها، ويضمن مواءمة البرامج واستدامتها وواقعيتها.
ويجب أيضاً اليوم إعادة إحياء “بيوت الشباب” وتطويرها لتصبح محطات معرفية وتنموية، تحتوي على مساحات للابتكار، ومراكز تدريب، ومسرّعات أعمال، ومنصات وطنية جامعة للحوار والتشبيك، تسهم في النهوض بمجتمع معرفي يحتوي الكفاءات الشابة ويساهم في تنمية المجتمع بشكل فاعل، لا أن تبقى أماكن مغلقة أو مناسباتية.
إنّ ما تحتاجه المحافظات الأردنية اليوم هو عقد تنموي جديد يحقق التوازن بين المركز والأطراف، ويعيد الاعتبار للعدالة في توزيع المشاريع والخدمات، ويعترف بحق كل محافظة في ترتيب أولوياتها وتحديد مسار نموها. عقدٌ تنموي يضمن ألا تبقى التنمية شعاراً، وألا تبقى المحافظات مجرد أرقام في موازنات الوزارات، بل تتحول إلى ساحات حقيقية للإنتاج والابتكار والإسهام الوطني.
ختاماً، فإن الحفاظ على التنمية في الأردن لا يمكن أن يتم دون تنمية عادلة للمحافظات، ولا يمكن أن تنجح الدولة في بناء نموذجها الاقتصادي والاجتماعي إذا بقيت الأطراف خارج دوائر التأثير والقرار. فتنمية المحافظات ليست واجبًا إداريًا، بل هي قضية سيادية، ومصلحة استراتيجية، وأمان اجتماعي طويل الأمد.