العرب يكتب: الهندسة الاجتماعية: حين تتحكم المعادلات بحياتنا..!
د. محمد العرب
في عالمٍ تتقاطع فيه التكنولوجيا مع حياتنا اليومية، تبدو الهندسة الاجتماعية كسلاح غير مرئي، يُعاد من خلاله تشكيل السلوك البشري، وتوجيهه وفق أهداف قد لا نعيها. في الماضي، كان التأثير على الجماهير يعتمد على وسائل مباشرة مثل الخطابات والشعارات. أما اليوم، فقد أصبح التلاعب أكثر دهاءً وذكاءً، حيث تستخدم البيانات والتقنيات الحديثة للتسلل إلى أعماق تفكيرنا، بل وربما لإعادة برمجته.
الهندسة الاجتماعية لم تعد مجرد أداة لإقناع الناس أو التلاعب بهم، بل أصبحت آلية لإعادة تعريف ما يعنيه أن تكون إنساناً ، عبر تقنيات مثل الذكاء الاصطناعي وتحليل البيانات الضخمة، يتم تحويلنا تدريجياً إلى نقاط بيانات تُرسم من خلالها أنماط سلوكية دقيقة. هذه الأنماط لا تُستخدم فقط لفهمنا، بل لتوجيهنا أيضاً. عندما تتصفح الإنترنت وترى إعلاناً يتوافق بدقة مع احتياجاتك أو رغباتك، فهذا ليس مجرد صدفة، بل نتيجة لمعادلات معقدة تصنعها الشركات التي تعرف عنك أكثر مما تعرفه عن نفسك.
لكن ماذا لو تجاوز هذا التلاعب حدود التسويق التجاري؟ ماذا لو استخدمت الهندسة الاجتماعية لإعادة تشكيل المجتمعات بالكامل؟ تخيل عالماً لا تكون فيه اختياراتك نابعة من إرادتك، بل من برمجيات تحددها مسبق ، في هذا العالم، يتم تصميم هويات اجتماعية تناسب احتياجات النظام، سواء كانت سياسية، اقتصادية، أو حتى ثقافية. يبدو هذا كحبكة من فيلم خيال علمي، لكنه أقرب إلى الواقع مما نتصور.
أحد أبرز الأمثلة على ذلك هو الطريقة التي يتم بها استخدام وسائل التواصل الاجتماعي اليوم. هذه المنصات ليست مجرد أماكن للتواصل، بل أدوات هائلة لتحليل السلوكيات البشرية. كل نقرة، كل إعجاب، كل تعليق، يتحول إلى جزء من قاعدة بيانات ضخمة تُستخدم لفهم كيفية تأثير المعلومات علينا. ومن هنا تبدأ عملية التلاعب. عبر الخوارزميات، يتم توجيه المحتوى الذي يظهر لك بناءً على ما يجذب انتباهك، مما يخلق دائرة من التكرار تغلق عليك ببطء، وتُعيد تشكيل آرائك وعاداتك.
هذا النوع من الهندسة الاجتماعية لا يقتصر على الفرد فقط، بل يمتد إلى المجتمعات ككل. في الانتخابات السياسية على سبيل المثال، تستخدم الحملات أدوات تحليل البيانات لاستهداف شرائح محددة من السكان برسائل موجهة. وبهذا، يتحول التلاعب بالرأي العام إلى عملية تقنية تُنفذ بدقة، بعيداً عن الجدالات الأيديولوجية التقليدية حتى لا يعود الفرد مجرد ناخب، بل يتحول إلى عنصر في معادلة حسابية تهدف إلى تحقيق هدف محدد.
لكن الخطر الحقيقي لا يكمن فقط في استخدام الهندسة الاجتماعية لتوجيه السلوكيات، بل في احتمال تحولها إلى أداة لإعادة برمجة الإنسان بالكامل. مع تطور تقنيات الذكاء الاصطناعي والواقع المعزز، قد يصبح من الممكن تصميم تجارب تفاعلية تُعيد تشكيل مشاعرنا وأفكارنا بطرق غير مسبوقة. ماذا لو استطعنا، على سبيل المثال، زرع أفكار أو قناعات معينة في أدمغة الناس دون وعيهم؟ هذه الفكرة قد تبدو خيالاً اليوم ، لكنها تتوافق مع الاتجاهات الحالية في علم الأعصاب والذكاء الاصطناعي.
في هذا السياق، يصبح السؤال الأخلاقي أكثر إلحاحاً : أين يجب أن نضع الحدود؟ إذا كانت الهندسة الاجتماعية تُستخدم لتحسين الحياة، مثل تقليل التوتر أو تعزيز الرفاهية، فقد تبدو إيجابية. لكن عندما تُستخدم للتحكم في خياراتنا وإعادة تعريف هويتنا، تصبح تهديداً لجوهر حريتنا.
الأمثلة الواقعية تظهر بالفعل أن هذه التقنية تُستخدم بطرق مقلقة. في الصين، على سبيل المثال، يُستخدم نظام (النقاط الاجتماعية) لتقييم سلوك المواطنين ومعاقبتهم أو مكافأتهم بناءً على أفعالهم. هذا النظام، الذي يبدو في ظاهره وسيلة لتحسين السلوك المجتمعي، هو في الواقع أداة هائلة للسيطرة على الناس وإبقائهم تحت رقابة دائمة.
ورغم المخاطر، فإن الهندسة الاجتماعية تحمل وعوداً هائلة أيضاً إذا استُخدمت بحكمة، يمكن أن تساعد في حل مشكلات معقدة مثل التغير المناخي أو تحسين النظم التعليمية والصحية. يمكن لهذه الأدوات أن تعيد تشكيل العالم ليصبح أكثر عدالة واستدامة. لكن هذا يتطلب حوكمة رشيدة ووعياً عالمياً لضمان عدم استغلالها بطرق ضارة.
الهندسة الاجتماعية ليست أداة تقنية فقط ، بل هي سؤال فلسفي عميق حول ماهية الإنسان ، إذا أصبحنا مجرد أجزاء في معادلة تُدار بواسطة الذكاء الاصطناعي، فهل نفقد جوهر حريتنا وإرادتنا؟ أم أن هذا التطور هو الخطوة التالية في رحلتنا نحو مستقبل أكثر تنظيماً وكفاءة؟
المفارقة تكمن في أن الهندسة الاجتماعية قد تُعيد تشكيل العالم بطريقة تجعلنا أكثر اتصالاً ، لكنها في ذات الوقت قد تفصلنا عن أنفسنا. نحن نقف اليوم على حافة مستقبل مجهول، حيث تتلاعب التكنولوجيا بحدودنا البشرية، وتضعنا أمام تساؤل محوري: هل نحن من يتحكم بالمعادلة، أم أننا أصبحنا جزءاً منها؟

