الغزوي يكتب: من ساحات الحرب إلى قصور الحكم
رمزي الغزوي
من ساحات الحرب إلى قصور الحكم
في منعطفات التاريخ الحادّة، تظهر شخصيات تقف عند حدود المستحيل، تخرج من الظل، وتتحول من مطاردين إلى زعماء دول، من قادة حروب إلى وجوه تستقبلها العواصم بحفاوة. ليس الزمن وحده من يبدّل الأدوار، بل الإنسان، بقدرته على إعادة تعريف نفسه داخل الفوضى، وعلى امتلاك السرد حين تتهيأ له الظروف.
قبل سقوط نظام الأسد البائس، كان أحمد الشرع، المعروف بأبي محمد الجولاني، قائداً لجماعة مصنفة على قوائم الإرهاب عالمياً. خلال سنوات، كان اسمه مرادفاً للخطر، تتعقبه القوى الكبرى وتخصص مكافآت مالية لاعتقاله. ثم تغير كل شيء، إذ بات رئيساً لسوريا، يسكن القصر ويلتقي زعماء العالم، ويملي رؤيته لمستقبل البلاد. ليست قصته نشازاً في التاريخ، بل تكرار لنمط إنساني مألوف، حيث تتقاطع الحرب مع السياسة، وحيث يصبح العدو السابق رجل دولة، وربما رجل سلام.
على مدار العقود، بدا هذا التحول أكثر شيوعاً مما يمكن أن يتوقعه عقل متيقظ. فياسر عرفات رحمه الله، قائد الكفاح الفلسطيني، كان في نظر خصومه شيئا آخر قبل أن يجلس إلى طاولة المفاوضات، يمد يده لمصافحة أعدائه، ويمنح الفلسطينيين، لأول مرة، كياناً معترفاً به دولياً. ذات يوم، وقف أمام الأمم المتحدة حاملاً غصن الزيتون في يد، وبندقية المناضل في اليد الأخرى، محذراً من كسر التوازن بينهما.
لبنان لم يكن بمنأى عن هذه الظاهرة. بشير الجميل، الذي قاد ميليشيا خلال الحرب الأهلية، أصبح رئيساً للجمهورية قبل أن يغتاله القدر سريعاً. نبيه بري، ووليد جنبلاط، وسمير جعجع، جميعهم خرجوا من رحم الصراع الدموي، ووجدوا أنفسهم داخل دهاليز السياسة، يحكمون، ويتفاوضون، ويعيدون رسم الخرائط التي كانوا طرفاً في تمزيقها.
في العراق، حمل مسعود بارزاني السلاح في شبابه، ثم حمل مسؤولية إقليم كردستان كزعيم سياسي، فيما صار جلال طالباني أول رئيس كردي للعراق بعد عقود. جون قرنق، الذي حارب حكومات السودان المتعاقبة، أبرم اتفاق سلام مع الخرطوم ليصبح نائباً للرئيس، لكنه لم يعش ليرى الاستقلال الفعلي لجنوب السودان، والأمثلة كثيرة في كل القارات.
في هذه التحولات، لا يكمن الدرس في المفاجأة بحد ذاتها، بل في طبيعة العالم الذي لا يحكمه ثابت. السياسة ليست سوى امتداد للحرب بوسائل أخرى، كما أن الحرب قد تكون امتداداً للسياسة حين تخفق الطاولات في استيعاب الخلافات. الذين يرفعون السلاح، إن امتلكوا الصبر والدهاء، قد يجدون أنفسهم يوماً ما يرفعون أيديهم للسلام. والذين يُطاردون بتهم الإرهاب، قد يطاردهم التاريخ نفسه، لكنه يمنحهم أيضاً فرصة إعادة كتابة أدوارهم. ليس في ذلك مفارقة بقدر ما هو جوهر اللعبة، حيث الأسماء تتغير، لكن السيناريو يبقى متكرراً، كأن البشرية تعيد صياغة أساطيرها مراراً، دون أن تتعلم منها شيئاً.

